اختارت باريس أن تضع حدا للمسار الدبلوماسي لسفيرها في تونس بيير مينا، وتعين بوريس بويون الدبلوماسي الشاب مكانه، وهو أصغر سفير فرنسي، لا يتعدى عمره 41 عاما، استقدمته من بغداد لمهمة لا تختلف كثيرا عن تلك التي كلف بها في العراق. فالمهمتان تتقاسمان عنصر الصعوبة في وضع دبلوماسية براغماتية، تحفظ الوجود الاقتصادي لفرنسا في البلدين.


بوريس بويون، دبلوماسي شاب،ابتسامته تخفي خلفها الكثير من الذكاء، الذي جعل منه اليوم أحد الدبلوماسيين المفضلين بالنسبة إلى قصر للإليزيه،زيادة على طاقته وخفته اللتين يستمدهما من روح شبابه.

ويعد اليوم نموذجا عصريا في الدبلوماسية الفرنسية، انتقل بالعمل الدبلوماسي الفرنسي إلى قالب جديد في التعاطي مع الأحداث الدولية، قالب متحرك وحيوي، يتماشى كثيرا مع الصورة الجديدة التي يرى المراقبون الفرنسيون أن تكون عليها دبلوماسية بلدهم.

لقد نجح هذا الدبلوماسي الذي يتقن اللغة العربية في إثبات كفاءته على التراب العراقي على الرغم من كل الأخطار. و ما هذا التعيين الجديد له في منصب سفير في تونس، بحسب المراقبين، إلا تأكيد على أن أداءه كمسؤول أول لدبلوماسية بلده في نقطة ساخنة كالعراق، كان مقنعا بالنسبة إلى أصحاب القرار في فرنسا.

سمح له تكوينه في المعهد الوطني للغات و الحضارات الشرقية، إضافة إلى شهادته الحاصل عليها من معهد الدراسات السياسية، أن يفرض نفسه في محطات صعبة للدبلوماسية الفرنسية في السنوات الأخيرة.

و اكتسب، من خلال المهام الدبلوماسية التي أنيطت به في عدد من العواصم العربية (مسقط، الجزائر، القدس وبغداد)، في سن مبكرة، تجربة مهمة، أهلته لأن يحتل موقع المسؤولية في الدبلوماسية الفرنسية في بلد محفوف بالمخاطر كالعراق، و هي مهمة كانت بالنسبة إلى هذا الشاب الدبلوماسي امتحانا حقيقيا في عمله الدبلوماسي، متعته بثقة أكبر من ساركوزي شخصيا.

بويون.. أحد أوفياء ساركوزي
يعتبره العديد من المراقبين أن بويون من أوفياء الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي يعود إليه الفضل في الدفع بتجربته الدبلوماسية واستثمار كفاءاته في الميدان عندما كان وزيرا، حيث استدعاه لينضم إلى فريقه كمستشار دبلوماسي، و عند وصوله إلى الإليزي، عينه مسؤولا على شمال إفريقيا و الشرق الأوسط، قبل أن يعين سفيرا في العراق.

و قال عنه فرانسوا بروان، الناطق الرسمي باسم الحكومة الفرنسية، إنه quot;دبلوماسي ذو قيمة كبيرة، برهن عن إمكانياته في المنصب الذي شغله في السابق...quot;، أي مهمته كسفير في بغداد.

و اعتبر الوزير الفرنسي أن بوريس بويون quot;له الحساسية الطبيعية حتى يتناسب مع المرحلة الجديدة التي تفتح في العلاقات الفرنسية التونسيةquot;، مضيفا أن quot;الشعب التونسي اختار الحرية و الديمقراطية...وواجب فرنسا مرافقة تونس نحو هذا الهدفquot;.

للسفير محبوه
و أصبح للسفير الفرنسي محبوه على الفايسبوك، بعد أن بثت القناة الفرنسية ضمن برنامج 66 دقيقة، قبل مدة، استطلاعا عن الوضعية التي يعمل فيها في بغداد، و قالت عنه صاحبة هذا الحساب على هذه الشبكة الاجتماعية: quot;هو شجاع، ديناميكي، رياضي، طموح، متحفز...و متواضع، وهو ما يجب أن يكون عليه في هذا البلد الذي يحيط فيه الخطر بالمرء من كل جانب....quot;.

و عن تعيينه الجديد، يكتب شخص آخر quot;ها هي صفحة جديدة تفتح بالنسبة إلى سفيرنا المحبوب و الشجاع. أتمنى له الكثير من الصبر، والكثير من النجاح في هذا التحدي الجديد...و أنا متأكدة أنه سينجح في مهمته كما نجح في تلك التي سبقتهاquot;.

و كتب تونسي على حائط هذا الحساب على الفايسبوك، مهنئا السفير بهذا التعيين.quot;هنيئا لك، ومرحبا بك في تونس، سفير شاب لتونس جديدة و شابةquot;، يخط هذا المواطن التونسي، مرحبا بقائد الدبلوماسية الفرنسية المعين حديثا في بلد ثورة الياسمين.

رجل المهام الصعبة
لا يتردد بعض المراقبين في وصف بوريس بويون بكونه رجل المهام الصعبة في الدبلوماسية الفرنسية. اختياره اليوم على رأسها في بحر ثورة الياسمين، له تفسيره، باعتبار أنه يتناغم مع متطلبات المرحلة في تونس، لأنه شاب ديناميكي حمل طاقة أخرى للعمل الدبلوماسي الفرنسي.

و لا يمكن أن تساير باريس التحول الحاصل في تونس إلا من طرف سفير من هذا الحجم، قد يكون الأفضل في كفاءاته الدبلوماسية، حتى يمكن لها تدارك الأخطاء السابقة تجاه هذه quot;الثورة الياسمينيةquot;، و التي اعترف بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، في تصريح أخير له، حيث أكد أن quot;حكومته كانت بطيئة في استيعاب خطورة الاحتجاجات الشعبيةquot;.

و فسر مصطفى موفق، الأمين العام لمركز الدراسات الأوروبي العربي،هذا التعيين في تصريح لـquot;إيلافquot; بكونه يجسد quot;رغبة فرنسا في استرداد ثقة الشعب التونسي التي اهتزت كثيرا، خصوصا بعد تصريحات وزيرة الخارجية ميشيل أليو ماريquot;.

و قال موفق إن السفير السابق في تونس بيير مينا، quot;قدم معلومات غير دقيقة للخارجية الفرنسيةquot;، ما عقد عليها تقدير الوضع التونسي و أبعاد خطورته، و ما نجم عن ذلك من تصريحات للدبلوماسية الفرنسية و لبعض الوزراء في حكومة فيو، استهجنتها المعارضة اليسارية، كما لقيت تنديدا كبيرا وسط الشارع التونسي.

و من جانبه، صرح طارق بن هيبة، إحدى الفعاليات الحقوقية التونسية في باريس، لـquot;إيلافquot;، أن الجالية التونسية، quot;تريد أن ترى أفعالا ملموسة للحكومة الفرنسية في قضايا الحريات و حقوق الإنسان في تونس، و لا تبقى خطاباتها مجرد كلام عابرquot;.

و أول ما ينتظر السفير الفرنسي الجديد، بوريس بويون، الذي تداولت وسائل الإعلام أنه سيكون في منصبه مع أواخر هذا الشهر، ربط قنوات التواصل مع المجتمع المدني التونسي، وهو ما انتقد عليه كثيرا سلفه، الذي عزل نفسه عنه، على الرغم من كونه، أي المجتمع المدني، يشهد له بديناميكية خاصة.

و قال طارق هيبة بهذا الشأن إن السفير الشاب quot;ينتظره عمله كبير في تونسquot;، و لا يشك المراقبون الفرنسيون في قدرتهعلى الذوبان في مشهد سياسي مليء بالألغام التي استأنس بالتعامل معها عندما كان على رأس الدبلوماسية الفرنسية في العراق.

و سيساعده، بحسب ملاحظين، في هذه المهمة، تواضعه في اصطحاب المجتمع المدني التونسي والتفاعل معه بالقدر الذي سيخدم هذه المرة مصالح الشعب التونسي، وليس الطغمة الحاكمة في تونس، مع الحرص، كما تسطر له ذلك دوائر الحكم في باريس، على مصالح فرنسا في هذا البلد المغاربي.

وهذه المصالح الفرنسية، يقول العديد من المراقبين اليوم، لا يمكن لها أن تستمر في الازدهار إلا عبر المرور من دبلوماسية من هذا القبيل، في بلد عرف ميلاد عهد جديد، و لربما، هو ما انتبهت له مراكز القرار في باريس بإقبالها على تعيين دبلوماسي من نوعية خاصة سفيرا لها في تونس.