يجد ناشطون سوريون في كاميراتهم وأدوات التسجيل التي بحوزتهم سلاحا فعالا لتوثيق الجرائم التي يرتكبها النظام السوري بحق الشعب، ويعتقد الناشطون أن توثيقاتهم ستكون اثباتا للتاريخ حول ما حدث في سوريا.

بدأ أحمد شيخ يقول عبارته التي رددها عشرات المرات وهو يصور بكاميرا الفيديو التي يحملها جدران المسجد المتفحمة وسطحه المنهار جزئيا في ضواحي المدينة: معضمية الشام ، 8 آب/اغسطس 2012 ، مخلفات الأضرار والدمار الذي أنزلته عصابات الأسد عندما اقتحمت المدينة. واضاف quot;حتى دور العبادة لم تنجواquot;.
يحمل شيخ ، الذي كان معلم تربية بدنية في معضمية الشام ، كاميرته أينما يذهب هذه الأيام. وتتدلى حقيبة الكاميرا السوداء من كتفه على جسمه الناحل.
وفي مسجد علي بن ابي طالب وجه الكاميرا صوب فتحتين فاغرتين في قبة المسجد حيث سقطت القذيفة. وعندما دخل قاعة الصلاة لم يكلف نفسه نزع الحذاء. إذ بدا ان احترام الصلاة لم يعد له معنى بعد أن غطى الغبار وشظايا الزجاج والأنقاض سجادة المسجد.
أوضح شيخ ان ما يفعله هو quot;لتوثيق التاريخ وإظهار التدمير. نحن نعرف ان احدا لن يهب لنجدتنا ولكن هذه مسؤولية تاريخية. وفي الأسابيع القليلة الماضية أخذنا نصور حتى الطرق والمباني تحسبا لتدميرهاquot;.
وفي مساء ذلك اليوم قام شيخ بتحميل شريط الفيدو على مشغِّل صلب محمول يحوي مئات الأشرطة والصور والملفات الأخرى التي توثق مشاركة معضمية الشام في الانتفاضة السورية. ويبدأ الأرشيف الذي بُث بعض منه على يوتيوب وفايسبوك في 21 آذار/مارس 2011 عندما خرج نحو 12 شخصا من اهل المنطقة في احتجاج سلمي تضامنا مع المتظاهرين في محافظة درعا جنوبي البلاد.
ويستمر الأرشيف حتى نهاية آب/اغسطس هذا العام عندما اقتحمت قوات الأسد ، كما يقول شيخ ، البلدة التي يسكنها نحو 30 الفا في ريف دمشق وقتلت زهاء 100 شخص مخلفة وراءها عشرات الأبنية المتضررة والمدمرة.
لم يفت الكثير على ناشطي المعضمية في سعيهم الى تسجيل كل تفصيل من تفاصيل الانتفاضة في بلدتهم. حتى اسلحة النظام التي وجهها ضد المدنيين حُفظت للأجيال القادمة.
وقال شيخ (30 عاما) لصحيفة لوس انجيليس تايمز quot;نحن نجمع كل شيء ، بما في ذلك القذائف الفارغة والذخيرة التي لم تنفجر لمتحفquot; سيُفتح لاحقا.
ويقوم ناشطون في انحاء سوريا بعملية توثيق مماثلة مسجلين الأحداث منذ بداية التظاهرات حتى عمليات القصف والاشتباكات اللاحقة ، وتشييد نُصب تذكارية للضحايا. وتُحمَّل أشرطة الفيديو على يوتيوب والصور الفوتوغرافية على فايسبوك. وتوزع لوائح القتلى الذين يسقطون كل يوم عن طريق سكايب والبريد الالكتروني.
ولكن تسجيل الانتفاضة بتفاصيلها يتعدى كونه تعبيرا عن عصر الثورات في زمن وسائل التواصل الاجتماعي. ففي بلد مثل سوريا ما زال يعيش ذكرى حملة دموية قتل فيها النظام عشرات آلاف المدنيين قبل 30 عاما لكن احدا لا يتحدث عنها جهارا ، يغدو التوثيق والتسجيل ردا على هذا الفصل المغيَّب من تاريخ سوريا ووسيلة للتوثق من ان مثل هذه الغفلة لن تتكرر مرة أخرى.
فعلى امتداد عقود كان يُشار الى الانتفاضة التي قادها الاخوان المسلمون في اواخر السبعينات بوصفها quot;الأحداثquot;. وحتى بهذه المفردة المبهمة لم تكن تُناقش ، ونشأ الأطفال جاهلين بالتاريخ الذي دفع بلدهم الى مثل هذا الصمت المقدس.
وقال عمرو العزم استاذ تاريخ الشرق الأوسط وعضو المجلس الوطني السوري سابقا quot;ان النظام قام بتجريف المباني وتغطية القبور الجماعية ثم قال لا تتحدثوا عن ذلك. وكان هناك ايضا احساس بهذا الرعب غير المنطوق ، هذا الشيء الذي يعرف به الجميع ولا يتكلم عليه احدquot;.
واليوم يصف نظام الأسد معارضيه بالارهابيين كما صور معارضيه من الخوان المسلمين رغم انه اصاب معهم نجاحا أكبر وقتذاك.
وبخلاف الانتفاضات العربية الأخرى التي كان الصحفيون المحليون والأجانب يسجلون وقائعها يوما بيوم فان الانتفاضة السورية ، الأطول امدا والأشد دموية والأعقد مسارا ، كانت تُغطى عن بُعد في الغالب. فان قلة من الصحفيين سُمح لهم بدخول سوريا بصورة قانونية فيما دفعت قيود النظام صحفيين آخرين الى دخول البلاد خلسة.
وبسبب هذا الوضع وقع عبء كبير من مهمة التوثيق والتسجيل على عاتق ناشطين هم أنفسهم منخرطون في معمعان الانتفاضة.
وتنشر مجموعات عديدة تقارير يومية عن اشخاص قتلوا وانتهاكات لحقوق الانسان ارتكبها النظام. وتأتي المعلومات من مصادر في مكان الحدث ، بمن فيهم اطباء وممرضون يعملون في مستشفيات ميدانية ، ينقلون ما لديهم من معلومات الى ناشطين في الخارج. واحيانا يكون اسم الضحية وبلدته وعمره متاحة واحيانا أخرى تصل الجثة بلا هوية تعريف.
والى جانب قوائم القتلة اليومية فان ناشطين مثل الصيدلانية سما (22 عاما) من حلب التي اكتفت باعطاء اسمها الأول ، يحاولون إعداد ملفات موسعة عن القتلى. وتقوم سما بزيارة عائلاتهم ، احيانا خلال مجالس العزاء ، لتطلب صورهم وتسأل عن حالتهم الاجتماعية وغير ذلك من تفاصيل حياتهم اليومية ، بما في ذلك مشاركتهم في الانتفاضة.
وازدادت مهمة سما صعوبة منذ تنامي حجم الخسائر والضحايا بوتائر متسارعة في حلب خلال الأيام الأخيرة من تموز/يوليو. فان القصف والغارات الجوية جعلت زيارة بعض الأحياء عملية محفوفة بالمخاطر فيما اصبح الاتصال ببعض العائلات متعذرا بعد نزوح آلاف من المدينة.
في احيان أخرى تمتنع عائلات عن الحديث إما لأنها ما زالت تؤيد النظام أو بسبب الخوف.
وقالت سما لصحيفة لوس انجيليس تايمز انها تنزعج كثيرا عندما تذهب الى عائلة quot;لا تريد الحديث عن شهيدها أو اعطاءنا صورتهquot;. واضافت quot;ان هذا خطأ فهذه قصته وهو جزء من تاريخناquot;.
ولكن دراسة تاريخ سوريا دراسة كاملة سيتعين ان تنتظر الى حين. فالناشطون منشغلون في محاولة اللحاق بالأحداث اليومية المتسارعة.
وعندما كان شيخ وناشطون شباب آخرون يطوفون المعضمية بسيارتهم أوقفهم رجل قائلا quot;إذا كنتم تسجلون فان هنا منزلا مدمراquot; مشيرا الى بيت قُصف في الهجوم الأخير الذي شنته قوات النظام على البلدة.
وأخرج ابو عمر الجالس وراء المقود رأسه من النافذة مناديا السيارة التي وراءه quot;سجلوا هذا البيت والحقوا بناquot;. وفي السيارة الأخرى كان مراهقان بدا ان كاميرات الفيديو التي يحملانها كانتا تصوران المكان حتى قبل ان ينزلا من السيارة.
رفع الصبيان كاميرتيهما أمام صدرهما دون ان يوليا انتباها لما يصورانه فالعدسة كانت تسجل كل ما تمر عليه امامها.
وفي مدرسة ابتدائية تحولت الى مقر للمعارضة ومستشفى ميداني فك ناشط طلاسم كتابة مبهمة في دفتر ملاحظات ونقلها على جدول بيانات مستخدما برنامج اكسيل لحفظها في الكومبيوتر. وكانت كل فقرة تتعلق بمنزل متضرر أو مدمَّر مع قائمة بالمسروقات. وتقول احدى الفقرات quot;عبد الله....منزل مدمر قيمته 250 ألف ليرة سورية ، وسرقة مصوغات ذهبية وكمية من العسل بقيمة 50 الف ليرةquot;.
وتتيح هذه البيانات للمنظمات الانسانية ارسال مساعدات الى المتضررين ، كما قال الناشط عمار ، ويمكن ان تُستخدم ايضا لملاحقة مرتكبي هذه الأعمال,
في المساء يجتمع الناشطون في بيت حيث يعمل كل ناشط على كومبيوتر لبناء جزء من ارشيف البلدة. وأُعيد ترتيب غرفة طفل وضعت على احد رفوفها لعبة وصور من أيام ماضية سعيدة ، لتكون مركزا اعلاميا مؤقتا.
وقال عمار quot;ان هذه طريقة للتذكر ولكنها ذكرى مريرة. لا أدري ماذا أعمل في هذه الأيام القليلة الماضية عندما كنا نوثق كل هذا. هل أبكي؟ تخنقني العَبَرات ، كيف يمكن لأحد ان يفعل هذا؟quot;
وعلى كل شاشة كومبيوتر كانت صور مروعة لجثث منتفخة تدب فيها الديدان أو جثث مذبوحة أو اختفت أجزاء من جمجمتها. فان جثث العديد من الضحايا رُميت في بساتين أو أقبية حيث مرت ايام قبل العثور عليها.
وكان الناشطون يسألون احيانا quot;من هذا؟quot; محاولين ان يتبينوا صاحب الوجه المشوه.
ورغم هاجس التوثيق لتسجيل كل شيء فان ضباب النزاع يُبقي بعض الجثث مجهولة الهوية وبعض الحقائق غير مؤكَّدة.
سأل احمد وهو ناشط آخر يعمل امام كومبيوتر مكتبي لملء جدول بيانات عن الضحايا quot;ما هو تاريخ الوفاة؟quot;
اجابه احد من الموجودين quot;قبل ثلاثة ايامquot;.
quot;لا ، وجدناه قبل ثلاثة ايام وكانت جثته هكذاquot; ، قال عمار ومد يديه في اشارة الى انتفاخ الجثة. quot;يعني انه كان هناك منذ ايامquot;.
قال ابو عمر quot;سجله بتاريخ 25 آب/اغسطسquot;.
قال عمار quot;أطول ، سجله بتاريخ 22 آب/اغسطسquot;.
قال الناشط معز شامي وهو صحفي اقتصادي سابقا quot;هناك رد فعل واضح جدا مما حدث إبان الثمانينات في الطريقة التي نعمل بها الآن لكي لا يقول أحد ذات يوم ان جزء فُقد من تاريخناquot;.
ويمضي شامي ساعات طويلة من يومه منكبا على كومبيوتره للاتصال بناشطين في انحاء دمشق وضواحيها ، متأكدا من الاخبار قبل نشرها. ويتناول وجباته القليلة بين المحادثات على سكايب.
قالت والدة شامي مؤخرا ان ابنها quot;كان يسمينا خونة لأننا لم نتكلم في الثمانينات. قلتُ له لم يكن بمقدورنا الكلام. كان الوضع يختلف حينذاك. لم تكن لدينا تكنولوجيا ، فايسبوك ويوتيوب كما لديهم الآنquot;.
أصر شامي (28 عاما) quot;انهم خونة ، لم يقولوا أي شيءquot;
قالت والدته quot;ماذا تريدنا أن نفعل؟ أخذوا عمك معهمquot;.
عض شامي شفتيه وهو يفكر في كلمات والدته. لم يبدُ مقتنعا بكلامها.