لا تزال المواجهة على أشدها بين مؤيدي ومعارضي بناء مركز إسلامي يضم مسجداً ومركزاً إجتماعياً بالقرب من موقع برجي مركز التجارة العالمي اللذين دمرهما إرهابيون مسلمون في 11 سبتمبر 2001. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية الأمريكيين يفضلون نقل المركز والمسجد إلى موقع أخر على الرغم من تأييد مسؤلي الإدارة الأمريكية ومسؤولي مدينة نيويورك خطط بناء المسجد الذين يعزون تأييدهم للمشروع إلى احترام مباديء الحرية التي يحميها الدستور الأمريكي. ومع تزايد وتيرة الحملة التي يقودها محافظون على بناء المسجد بالقرب من موقع برجي مركز التجارة العالمي يؤكد القائمون على بناء المسجد عدم نيتهم التفريط في فرصة بناء المسجد في أشهر المواقع الأمريكية وأقربها على الإطلاق إلى قلوبهم، ساعين في الوقت ذاته إلى تهدئة الرأي العام الأمريكي عبر الإشارة إلى أن المركز سيكون وسيلة لدعم الحوار بين الأمريكيين ونشر مبادئ الإسلام المعتدل.

القضية من دون شك شائكة ومعقدة لأنها تتعلق بحرية العقيدة التي فطر عليها ويقدسها الأمريكيون. لكلا الطرفين المتنازعين ما يدعم موقفهما المتناقض، فإذا كان المسلمون يشددون على أن نص القانون يدعم مسعاهم ويوفر لهم الحق في بناء دور عبادتهم أينما شاءوا، فإن الأمريكيين المعارضين لبناء المسجد بالقرب من موقع هجمات 11 سبتمبر الإرهابية يرون أن روح القانون يدعم موقفهم موضحين أن حدود حرية وحقوق الفرد أو الجماعة دائما هي حدود حرية وحقوق الأخرين. ويؤكد معارضو المشروع أن مسجداً على بعد امتار قليلة من الموقع، الذي شهد أسوأ اعتداءات طالت الكرامة الأمريكية، عمل غير مسئول ويعد تعدياً على مشاعر الأمريكيين التي كانت جرحت على أيدي مسلمين في اعتداءات 11 سبتمبر الإرهابية. فضلاً عن ذلك يقول المعارضون لمشروع بناء المسجد بأن المشروع الإسلامي بالمنطقة التي يعتبرونها مقدسة يعد تمجيداً للإرهابيين الذين نفذوا الاعتداءات خاصة مع غياب إدانة إسلامية واضحة للجهاد المسلح الذي جاءت هجمات سبتمبر في إطاره.

يتهم محافظون أمريكيون الإدارة الأمريكية الحالية أن بمجاملة المسلمين على حساب مشاعر أهالي ضحايا هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، ويقولون أن القائمين على مشروع المسجد يستغلون موقف الإدارة الأمريكية الحالية المؤيد بلا حدود للمسلمين. ويستشهد المحافظون بموقف الرئيس باراك أوباما المؤيد القوي لخطط بناء المسجد في الوقت الذي لم يتخذ فيه أوباما موقفاً من إعادة بناء كنيسة القديس نيكولاس لليونانيين الأرثوذكس التي كانت دمرت في اعتداءات 11 سبتمبر الإرهابية ورفضت السلطات بمدينة نيويورك التصريح بإعادة بنائها بدون حجة واضحة رغم أن الكنيسة عاشت ما يقرب من قرن كامل في المنطقة.

لست أدري مغزى وما وراء اختيار القائمين على المشروع للموقع الحالي للمسجد وتشبثهم به، إذ ليس للموقع أهمية تاريخية أو دينية للموقع الحالي بالنسبة للمسلمين إلا إذا كانوا حقاً يسعون لتخليد ذكرى الهجمات الإرهابية التي يطلق عليها الإسلاميون غزوة مانهاتن. كان بالأحرى اختيار موقع أخر حتى لا يتهم المسلمين بالإساءة لمشاعر الأمريكيين وحتى ينأى المسلمون بأنفسهم عن اتهامات قد تطالهم ونزاعات وجدالات هم في الواقع في غنى عنها. وإذا كان المسلمون يجادلون بأن اعتراض الأمريكيين على خطط بناء المسجد بالقرب من موقع برجي مركز التجارة العالمي عمل غير مبرر على أساس أن لا علاقة للإسلام والمسلمين باعتداءات 11 سبتمبر، فهم مخطئون تماماً لأن جدالهم بعدم المسؤلية عن الهجمات غير منطقي. وللحق فإن لا جدال في أن اعتداءات 11 س ستظل أبداً ملتصقة بالإسلام والمسلمين طالما بقي المسلمون يرفعون راية الجهاد المسلح الذي يستبيح دماء الأبرياء ضد كل من يرونه عدواً لهم ولدينهم.

لا شك في أن الاعتراض الشعبي الأمريكي على خطط بناء المسجد يرتبط بشكل أو بأخر بالمخاوف التي تساور الأمريكيين بشأن انتشار التطرف الإسلامي في الولايات المتحدة أو ما يطلق عليه أسلمة أمريكا، ولا شك في أن لهذه المخاوف ما يبررها في ظل الأخبار التي تتواردها وكالات الأنباء بين الحين والأخر عن القبض على متطرفين مسلمين أمريكيين ينشرون الكراهية ويخططون لأعمال إرهابية ضد مصالح أمريكية. ومن المؤسف أن أحداً من علماء المسلمين الكبار لم يسع للنأي بالإسلام والمسلمين عن دائرة الاتهام بدعم الجهاد المسلح باسم الإسلام ورسوله. وفي هذا الصدد يأخذ الأمريكيون على الإمام فيصل عبد الرؤوف القائد والمخطط والمشرف على مشروع مسجد برجي مركز التجارة العالمي موقفه المخزي في هذا الشأن إذ يرفض عبد الرؤوف إدانة الإرهاب والجهاد حتى أنه وصف اعتداءات سبتمبر بأنها نقلة كبيرة في تاريخ الإسلام في الولايات المتحدة وحين حمّل الأمريكيين مسئولية اعتداءات 11 سبتمبر بقوله أن الولايات المتحدة هي من صنعت أسامة بن لادن، وأن الولايات المتحدة تحمل في يديها مسئولية دماء عدد من المسلمين يفوق عدد ضحايا 11 سبتمبر.

لم أصدق أذنيّ من الدهشة حين استمعت لأحاديث الإمام عبد الرؤوف التي برر فيها بشكل صريح وغير مباشر اعتداءات سبتمبر. وازدادت دهشتي بشدة حين علمت أن الإمام اختار قرطبة إسماً للمسجد. فمن المعروف أن مدينة قرطبة كانت عاصمة للدولة الإسلامية بعد الغزو العربي العسكري لأسبانيا، ولأن الأسماء تعني الكثير فإطلاق اسم قرطبة على المسجد يثير شكوك لا نهاية لها لدى الأمريكيين حول المعاني والدوافع وراء بناء المسجد. ولست أستبعد على الإطلاق أن يقوم متطرفون إسلاميون بالربط بين مدينة القرطبة العزيزة على قلوب المسلمين لأنها شهدت ازدهاراً إسلامياً بعيد غزوة الأندلس ومسجد قرطبة الذي يريدونه شاهداً على الانتصار الإسلامي في غزوة مانهاتن. وعلى الرغم من تبرير الإمام عبد الرؤوف لإطلاق اسم قرطبة على المسجد على أنه تيمناً بمدينة قرطبة التي يقول أنها شهدت تعايشاً بين المسلمين والمسيحيين واليهود، فإن مثل هذه الأقوال يؤكد التاريخ عدم صحتها لأنه من المعروف أن الغزو الإسلامي لأسبانيا غيّر هوية أسبانيا بعدما أُجبر الأسبان على التخلي عن المسيحية واعتناق الإسلام وبعدما حُوِلت الكنائس إلى مساجد.

قضية مسجد برجي مركز التجارة العالمي خطيرة وشائكة، ولا شك في أن القائمين على خطط إنشاء المسجد وضعوا الأمريكيين في موقف حرج لا يحسدون عليه. فالقبول بإقامة المسجد يشكل تحدياً كبيراً لمشاعر الأمريكيين بينما رفض إقامة المسجد قد يراه البعض تخلياً عن مبادئ حرية العقيدة التي تشكل حجر الزاوية في حياة الأمريكيين. ربما يتطلب الوصول إلى حل للقضية تقديم تنازلات من قبل جميع الأطراف. وربما كان الاقتراح بإنشاء مجمع أديان فوق موقع المشروع يخدم اليهود والمسيحيين والمسلمين والبوذيين وغيرهم ويشهد للتسامح بين الحضارات والأديان حلاً منطقياً للأزمة الحالية. ولكن هل يقبل القائمون على مشروع المسجد بحل كهذا؟ ربما يقبلون إذا لم يفسد هذا الحل مخططات أخرى غير معلنة للقائمين على المشروع.


[email protected]
Twitter: @JosephBishara