توفرت لي وثائق سرية مهمة من المكتب الخاص للرئيس السابق صدام حسين، منها ما هو بخط يده، ومنها ما هو بخط حامد حمادي الذي كان يشغل وظيفة رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، وهي في العراق، مع رئيس مثل صدام حسين، لم تكن تعني أكثر من بواب أو فراش ليس أكثر.
بعض تلك الوثائق يعود تأريخها إلى الثمانينيات، ومنها ما يعود إلى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لم أجد الوقت الكافي لفرزها وإعادة ترتيبها ونشرها ليطلع العالم على صفحات مطوية، ولكن مهمة وجذرية، من تاريخ العراق والعرب والمنطقة.
وقد اقتطعت هنا اثنتين من عشرات الأوراق الخاصة بمحضر اجتماع القيادة القومية لحزب البعث.
يعترف صدام حسيسن في الأولى بأن الحزب إذا ما تحمل أوزار الدولة فإنه يضعف لا محالة. وهذا ما حدث تماما لنظامه، وهو ما قاده إلى الترهل والسقوط في بحر من الأخطاء القاتلة، وما جرّه، أخيرا، إلى السقوط المجلجل الذريع.
فالعلاقة الجدلية بين الحزب والدولة تبقى دائما هي الأكثر حسما في تقرير مصير كل منهما. فإذا تغلب الحس الحزبي لدى موظف الحكومة الحزبية تحولت الدولة إلى أداة من أدوات الحزب وأسلحته ومقومات حياته، ترفعه إن أحسن استخدامها، أو تقتله إن أخفق في فهم قوانينها ومعطياتها وأبعادها. وإن تغلبت النزعة الوظيفية لدي الموظف الحزبي تحول إلى حزبي فاشل قابل للاستبدال بمن هو أكثر تعصبا والتزاما وتفضيلا للحزب ومسيرته ومسقبله على الدولة وهبيتها ومصالحها ومستقبلها.
وقد سقط كثيرٌ من البعثيين في الاختبار، حين كشفوا عن وطنية تتفوق على الحزبية. بالمقابل سقط كثير منهم أيضا حين تفوقت فيهم الحزبية على الوطنية.
فلا يمكن اعتبار ساجدة أو بدرة الطلفاح، أو وكلائهما كالمطلق وغيره من الموظفين الطفيليين الذين التصقوا بالطبقة الحاكمة، بعثيين نموذجيين، ولا مواطنين نموذجيين. لأن الحقيقة أنهم كانوا لا من هذه ولا من تلك.
لكن عدي وقصي وبرزان التكريتي وعلي حسن المجيد وسبعاوي ووطبان كانوا نموذج الحزبي الذي طغت حزبيته على وطنيته، فداس على الدولة واعتبرها مطية توصله إلى غايا حزبية أو شخصية بحتة. في حين كان عبد الخالق السامرائي وأمثاله، على قلتهم، نموذجا للبعثي الذي حاولت وطنيته أن تحد من نزعته الحزبية، فخسر المشيتين.
ومن حزب البعث يمكن الانتقال بسهولة إلى حزب الدعوة الذي حاول، وما زال يحاول، أن ينتهج نفس مسيرة حزب البعث في انتزاع السلطة، وتأسيس ديكتاتورية الحزب الواحد، وهيمنة أبناء طوريج بدل تكريت والعوجة.
وكذبٌ ما يحاول المالكي التظاهر به من سلطة االقانون المزعومة. فلا هو صدق في مزاعمه الوطنية العراقية، ولا في مزاعمه الحزبية الطائفية الشيعية المغشوشة. والدليل على ذلك أنه لم يستطع استقطاب الشيعة العراقيين، حتى من حلفائه في الائتلاف، وخاصة جماعة الحكيم والصدريين. وبقي نموذجا فاقعا للحزبي الديني المنغلق على نفسه وعلى حزبه، ويعتبر الدولة مجرد مزرعة مملوكة بالكامل من قبله ومن قبل بعض خاصته القليلة التي فاحت فضائحها حتى زكمت الأنوف. وضعفت الدولة تماما وفقدت توازنها ووحدتها وأمنها واستقرارها، وأصبحت آيلة للسقوط.
ويعكس تمسك الأمريكان بالمالكي حقيقة انتهازيته وعدم ثباته على ولاء من الولاءات المتاحة.
فلم يكن وفيا لإيران، مقابل ما قدمته له من دعم في اختياره رئيسا للوزراء بديلا للجعفري، ولا ظل وفيا للأمريكان الذين نصبوه وحموه ودعموه، وما زالوا، ليواجهوا به وبحزبه إيران ونفوذها النامي في العراق والمنطقة.
والمالكي مهما حاول أن يظهر بمظهر المتحضر ورجل القانون لم يستطع أن يستر طائفيته المغلقة وانتهازيته. ويكفي أنه نزع ربطة عنقه حين قابل خامنئي.
وكما سقط حزب البعث، عراقيا وعربيا، حتى قبل الغزو الأمريكي، فقد سقط حزب الدعوة أيضا، وتعرت مفاصله الفكرية والعقائدية، ولم يعد حزبا عراقيا قادرا على قيادة الشعب العراقي، أو بعضِه، إلى شاطيء الأمان.
ومن أكبر مآزق حزب الدعوة وزعيمه المالكي علاقتُه مع القيادة الكردية العراقية التي لا تتساهل في مطالبها التي تعتقد بأنها مقدسة وأساسية واستراتيجية لا تقبل المساومة والتأجيل.
فهو غير قادر على تغليب مصالحه الشخصية فيعطي الأكراد مطالبهم القومية في المناطق المتنازع عليها ويكسب تأييدهم له في مواجهة عمار الحكيم وعادل عبد المهدي وأياد علاوي، ولا هو ذلك الزعيم الشجاع الذي يجاهر بحقيقة أفكاره وأحاسيسه ومواقفه بصراحة ووضوح، حتى لو خسر الدعم الكردي الحاسم والوحيد القادر على تقرير الكفة الراجحة في صراع الكراسي الدائر في بغداد.
وقد اكتشف العراقيون أن القايدة الكردية هي الأكثر صراحة، والأكثر شجاعة، والأكثر واقعية، في معالجة أزمة الحكومة، رغم كل الضغوطات الأمريكية والإيرانية التي لم يصمد أمامها كثيرون غيرهم.
أما الورقة الثانية من أوراق صدام حسين فتشخص إشكالية الدين والسياسة، وتحكم على الإسلام السياسي بالفشل المؤكد. وفيها يأمر صدام حسين رفاقه في القيادة القومية بعدم تمكين رجل الدين من السلطة، لأنه إذا ما أمسك بها فسوف يضيع المشيتين.
ومن مجمل ما حدث للعراق منذ سقوط النظام السابق في 2003 وإلى اليوم يمكن تأييد نظرية صدام، والإقرار بأنه على حق في هذا المبدأ دون ريب.
وحزب الدعوة بقيادة نوري المالكي قدم لنا الدليل الفاقع والمقنع والصارخ على أن رجل الدين، وخاصة رجلَ الدين الشيعي، وبالأخص حزبَ الدعوة الفاشل، لا يصلح للسلطة. فهو حين أمسك بها أضاع حزبيته وأضاع وطنيته معها. والمزعج في كل ذلك أنه ما زال مصرا على المكابرة والتشبث بالسلطة، حتى وهي مخلخلة ومائعة وممزقة. وهو في هذا يختلف عن حزب البعث الذي حافظ على وحدة دولته وهيبتها، وصمد في مواجهة الرياح العاصفة التي هبت عليها، من كل جانب، إلى أن أسقطتها وجعلتها مجرد صفحات مطوية في زوايا النسيان.
التعليقات