إن الأحداث الأخيرة التي حدثت في مصر هي ليست مواجهة بين الشعب والشرطة المصرية, بل هي بين بين الشعب والحكومة المصرية التي فشلت وعلى كثير من الصعد في إحداث الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فشلت في معالجة الفقر وأزمة السكن وتوفير فرص العمل وتوفير الحريات المدنية وترسيخ قيم الديمقراطية الحقيقية. فعلى الجماهير التي خرجت منذ ثلاثة أيام أن تدرك أن الشرطة المصرية هي جزء من الشعب المصري, وماعلى المتظاهرين إلا التعامل مع الشرطة المصرية كجزء من هذا الشعب, فعليهم تقديم الورود للشرطة وذلك لكسب مواقف الشرطة المصرية بأن تكون في صف الشعب وليس في صف الحكومة. إن سلاح الورد أثبت جدارته في الثورة الإسلامية في إيران, ويثبت فعاليته في الآن في تونس ويمكن أن يثبت فعاليته في مصر. فالشرطي المصري هو جزء من هذا الشعب الذي يثور على الظلم الذي يتعرض له. سأسرد هنا قصة حدثت معي في مروري بمصر قبل أكثر من عشر سنين.
كنت في طريقي من الاردن إلى ليبيا, هاربا ً من جحيم العراق. فكان لابد من المرور في مصر آن ذاك, لكن المشكلة كانت بأني عراقي وليس لي حق بالحصول على تأشيرة دخول الدولة المصرية. لكن التجارة وكسب المال جعل من شركات النقل أن تجد حلا ً قانونيا ً لكل العراقيين بالمرور في مصر والوصول إلى ليبيا, وذلك يتم بالشكل التالي: يدخل العراقيون اراضي الدولة المصرية على شكل مجموعات بصفة مقبوض عليهم, أو قل بصفة سجناء لتجنب موضوع تأشيرة الدخول. وعلى هذا الأساس رافقنا نحن الثلاثة عشر فردا ً أثنين من الشرطة المصرية من ميناء النويبع إلى نقطة تفتيش السلوم على الحدود الليبية. وصلنا القاهرة صباحا ً وأدخلنا أصحاب شركة النقل كراج السيارات, ذلك المكان القذر المليء بدهون السيارات, التابع للشركة وذلك للإستراحة بضع ساعات قبل الإنطلاق مجددا ً في رحلتنا بإتجاه ليبيا. لقد كان الشرطيان أحدهما كبير في السن وأعلى رتبة من الشرطي الثاني الذي مازال شابا ً في مقتبل العمر واسمه عبد الله.
بالنسبة لنا كان الخروج من العراق اشبه بالخروج من سجن شمشون الجبار, وهمنا هو مشاهدة كل مكان بمتعة فما بالك بالقاهرة وهي أم الدنيا على حد قول المصريين. بعد محاولات إقناع وقليل من المال وافق عبد الله أن يصطحبنا بجولة بالقاهرة التي كان لايعرف طرقها ودروبها, فهو من الزقازيق حسب ما عرفنا لاحقا ً. لقد كانت جولة رائعة لنا نحن الأربعة اشخاص مع عبد الله ختمناها بالتسوق لرحلتنا من منطقة حي الحسين في القاهرة. لقد كان المصريون لطفاء في معاملتنا حتى أنهم رفضوا في البداية أخذ المال بعد معرفة أننا عراقييون. لكن ماكان ينتظرنا وعبد الله أكبر. ففي الكراج كان في أنتظارنا عقيد للشرطة المصرية الذي أنهال ضربا ً على عبد الله في وسط الشارع في منطقةشبرا أمامنا وأمام المارة والسيارات والعمارات السكنية. لقد وبخه وانهال عليه بكيل من الشتائم التي لايرضى بها الله ولا عباده. اما عبد الله المسكين فقد كان ساكتا ً. حينها تدخلنا وطلبنا من عقيد الشرطة الكفاف عن الضرب والشتائم, وقلنا له بإننا اردنا فقط التسوق لرحلتنا ونحن من طلب ذلك. فقال لنا العقيد باللهجة المصرية (العتب مش عليكم, العتب على الزبالة بتاعتنا). واصلنا طريقنا بعد ذلك في جو من الكآبة, وظل عبد الله غارقا ً بالصمت حتى نهاية الرحلة. أنتهت القصة هنا.
كلما تذكرت هذه القصة, أتذكر معها جدلية السيد والعبد التي طرحها الفيلسوف الالماني فريدرك هيجل. يقول هيجل أن العبد بحاجة إلى السيد لتوفير أحتياجاته المعيشية من خلال العمل الذي يقوم به للسيد. في نفس الوقت يحتاج السيد للعبد لتوفير أحتياجات السيد الذي لايستطيع القيام بها لأن مكانته الإجتماعية لاتسمح له بذلك. فهو ينظر للعبد على أنه آداة لتحصيل المال والحفاظ على المكانة الإجتماعية. العبد بحاجة للسيد من أجل البقاء على قيد الحياة, والسيد بحاجة للعبد ليكون سيدا ً, فكلاهما بحاجة للآخر في علاقة تفاعلية. فالمكانة الاجتماعية غير مستقلة بذاتها بل تعتمد على غيرها لإثبات وجودها داخل هذا العلاقة التفاعلية. فلكي يكون السيد سيدا ً, لابد أن يكون هناك عبدا ً, وذلك من خلال إبقاء العبد بحاجة للعمل ليأخذ إعترافا ً منه بالسيادة. فالعبد أكثر إستقلاليه من السيد في إعتماده على الآخر. وعلى هذا الأساس, يقوم السيد بإنتاج وعي العبد عن نفسه, وذلك من خلال إبقاء العبد بحاجة للسيد من خلال الحاجة. فتشكل هوية العبد الذاتيه عن نفسه من خلال الوعي الذي ينتجه السيد, لينظر العبد لنفسه على إنه عبد ولايمكن في إي حال من الأحوال أن يصبح سيدا ً. ففي هذه العلاقة يقوم السيد على الدوام بممارسة سلطته كسيد لتركيز ذلك الوعي, وتذكير العبد بإنه عبد. إذا ً, من خلال ممارسة السلطة ينتزع السيد إعترافا ُ من العبد بإنه سيد. فيقوم السيد بنفي الآخر لإثبات الذات, فيقوم السيد بإهانة العبد وإشعاره بإنه أدنى من السيد ليثبت لنفسه وللآخرين إنه سيد.
لقد خرج المارد من قمقمه ولن يعود أبدا ً. فعلى المتظاهرين أن يساعدوا الشرطة المصرية من التخلص من دور العبد والتمرد على هذا السيد الذي يضطهد هذا العبد. إن السيد بحاجة ماسة للعبد الآن وفي هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها مصر, إنها الفرصة التي لابد أن يتخلص كل مظلوم من ظلمه, وما الشرطة المصرية إلا جزء من هذا الظلم. إنها اللحظة المناسبة لكسر نظرية العبد والسيد. لابد أن يفهم الشرطي المصري أن من أمامه هو أما جيرانه أو صديق له أو أحد أفراد عائلته الذي لايريد أن يصيبه بأذى. المشكلة هي بين الشرطي المصري وبين قياداته التي التي تمارس معه دور السيد ووحدها تلك القيادات التي كانت مستفيدة بإرتباطها بالسلطة والتي تأخذ الرشاوى وتضطهد المواطن العادي وتنتقص من كرامته بما فيهم الشرطي الذي هو في الشارع اليوم.