مناحيم ميلسون ونجيب محفوظ عام 1979

البروفيسور مناحم ميلسون هو أحد أساتذة قسم اللغة العربية والأدب العربي في الجامعة العبرية في القدس وقد شغل منصب عميد كلية الآداب في هذه الجامعة وذلك من سنة 1991 الى سنة 1997. له كتاب عن نجيب محفوظ باللغة الإنجليزية بعنوان: Najib Mahfuz: The Novelist-Philosopher of Cairo (quot;نجيب محفوظ: الروائي-الفيلسوف من القاهرةquot;). ومن مؤلفاته أيضا تحقيق كتاب quot;آداب المريدينquot; لأبي النجيب السهروردي وكتاب آخر بالإنجليزية عن آداب المريدين في التصوف بعنوان: A Sufi Rule for Novices. في يوم الاثنين 12/11/2011 ألقى البروفيسور ميلسون محاضرة في جامعة حيفا عنوانها (نجيب محفوظ: ما ظهر من الاسم وما خفي) خلال مؤتمر استمرّ ثلاثة أيام للاحتفاء بذكرى مرور مائة عام على ولادة الاديب الكبير الراحل نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب

سيدي عميد الكلية، سيدي رئيس الجلسة،
سيداتي وسادتي, أيها الحفل الكريم
انه لمن دواعي سروري أن أحلَّ ضيفًا على قسم اللغة العربية وآدابِها في جامعة حيفا، هذا القسم الذي حظيتُ بالمساهمة في اقامتِه وإرساءِ دعائِمِه، وذلك لأسبابٍ ثلاثة أولها اشتراكي في هذا المؤتمر وإلقائي كلمةً فيه، والثاني نُزولي بحيفا مسقطِ رأسي والمكانِ الذي ترعرعتُ فيهِ، والثالث والأهم إتاحة الفرصة أَمامي لإبداء بعضِ آرائي في نجيب محفوظ، الذي تربطُنِي به روابط شخصية وأدبية.
إسمحوا لي أن أفتتح ببعض الملاحظات الشخصية
عندما بدأت التدريس في الجامعة في أواخر 1963، وانتقلتُ من الاهتمام بآداب الصوفية وهو الموضوعُ الذي انشغلتُ بهِ في مرحلةِ الدكتوراة، إلى بحث الأدب العربي الحديث وتدريسِهِ، كانتِ الكتب الصادرة في الدول العربية صعبةَ المنال في إسرائيل، وكان علينا ان نطلبَها من مكتباتٍ متخصصة في انجلترا او هولندا. وكان من حسن حظي أني حصلتُ على احدى رواياتِ نجيب محفوظ ndash; وهي quot;بداية ونهايةquot;ndash; التي طُبعت ايضا في اسرائيل في تلك السنوات، فكانت أولَ روايةٍ اقرأُها لهذا الأديبِ الكبير. ولَمَّا أتممتُ قراءتَها شعرتُ بانفعالٍ وتأثر عميقين واقتنعتُ بانني امام عمل أدبي قيِّم من الدرجة الاولى وامام كاتب وروائي، ليس فقط كاتبا بارعا وانما انسانا كبيرا ايضا. ومنذ ذلك اليوم حاولت قدر الامكان ان أحصلَ على مؤلفات نجيب محفوظ التي صدرت قبل هذا التاريخ وتلك التي كانت تصدر بعد ذلك كلَّ عام تقريبًا.
في سنة 1968 ألقيت محاضرة في مناسبة ذكرى مرور عام على وفاة الدكتور اسحق شموش، أستاذي الاول للادب العربي الحديث في الجامعة، واخترت موضوعا لها وهو quot;نجيب محفوظ والبحث عن القيمquot;، ونُشِرت هذه المحاضرة في مجلةٍ جامعية متخصصة باللغة العبرية ثم نقلتُها الى اللغة الانجليزية وصدرت في مجلة أرابيكا الدولية (Arabica)، فخطر بِبَالِي أن أرسل هذه المقالة الى الكاتب نفسِه. وكما هو معروف، لم تكن هناك علاقاتٌ بريدية مباشرة بين اسرائيل ومصر في تلك الفترة، فطلبت من أحد الأصدقاء في انجلترا أن يبعث مُسْتَلَّةَ المقال الى محفوظ من عنوانه الجامعي هناك. ورأيت آنذاك ألاّ أكتب بشكلٍ صريح وواضح أَنِّي باحث اسرائيلي، خشيةَ أن تُصادِرَ الرِّقابة المصرية ذلك المُغلَّف، بل والأسوأ خشيةَ أن يؤدِيَّ الامرُ إلى ورطة لنجيب محفوظ وان يتسبب له بالإحراج، وترددت كثيرا كيف أجعل هذا الكاتب ألذي أحترمه وأحبه يعرف هويتي، وأخيرًا قررت أن أكتبَ في الاهداء قطعة شعرية تشير الى انني لا أستطيع لقاءه شخصيا، فاخترت أبياتا للشاعر العباسي علي بن الجهم جاء فيها:
أَبلِغْ أخًا ما تولى الله صحبتَنا أنِّي وإن كنت لا ألقاهُ أَلقاهُ
وأنَّ طرفِيَ موصولٌ برؤيتهِ وإن تباعد عن مثوايَ مثواهُ
الله يعلمُ اني لست اذكره وكيف أذكره إذ لست انساهُ
وممَّا دعاني لاتِّخاذِ هذه الطريقة ndash; وهي طريقة عربية عريقة ndash; أَنِّي لاحظت ميلَه الشديد الى الكتابة الرمزية والكنائية.
وارسلت الرسالة وانتظرت، وبعد مرورِ أسابيعَ، وَصَلَتْنِي رسالةٌ أحتفظ بها الى اليوم، وهي من أثمنِ ما لديَّ من مقتنيات، وكانت تلك رسالة من نجيب محفوظ، هذا نصُّها:
سيدي الدكتور ميلسون
تلقيت بالشكر والامتنان دراستَكم القيمة، فقرأتها بالاهتمام الشديد الذي تستحقه بكل جدارة وتابعت فكرتَكم في القصص القصيرة وبعضِ الرِّوايات بتأثرٍ وإعجاب.
وقد هزَّني الشعرُ الذي اخترته بصفاءٍ ومودة ولا أجدُ من ردٍّ عليه خيرًا من قول مهيار
أُذكرونا ذِكْرَنا عهدكمُ ربَّ ذكرى قَرَّبَت من نزحا
وختاما سيدي تقبل أعطر التَّحيات
المخلص
(التوقيع نجيب محفوظ)

مرت سنون, وفي سنة 1977 جاءت زيارة الرئيس أنور السادات لاسرائيل، ومن عجائب الصدف ومن حسن حظي، انني كنت آنذاك في إجازة مطولة من الجامعة للخدمة العسكرية. وعندما أُعلِنت مبادرة الرئيس السادات وأُعلِن خبر زيارتِهِ المنتظرة لاسرائيل عينتني الحكومة الاسرائيلية ياورا ( مرافقا عسكريا) للرئيس الضيف، وقبل رجوع الرئيس السادات الى بلاده دعاني لزيارة مصر، وللأسف الشديد لم أستطع أن ألبِّيَ هذه الدعوة آنذاك، لانني كنت كما قلت في الخدمة العسكرية، ولكن بعد إنهائي الخدمة كرر الرئيس السادات دعوته عندما زار مدينة بئر السبع والتقيت به خلال تلك الزيارة، فلبيت الدعوة وذهبت الى مصر في شهر يونيو 1979، وعندما سألني رئيس التشريفات المصري، السيد أحمد تيمور( وهو إبن عم الكاتب القصصي المشهور محمود تيمور) هل لديّ مطالبَ خاصة ndash; ما عدا الزيارات المألوفة للمتاحف والاهرامات، قلت: quot; نعم، اودُّ الاتصالَ بنجيب محفوظquot;، فأتاحوا لي الاتصال به تلفونيا، وكانت تلك مفاجأة له، فدعاني إلى بيته، وجئت لزيارته في منزله في شارع النيل 172 في حي العجوزة في القاهرة، ولما وصلت كان محفوظ في انتظاري على مدخل العمارة، وعند اللقاء تعانقنا وتبادلنا القبلات وكأننا كنا أقارب افترقوا منذ زمن طويل وتقابلوا من جديد، وبعدها أدخلني شقَّتَه وعرفني على زوجته السيدة عطية الله ابراهيم التي احتفت بي أحسنَ حفاوة، مقدمة من الحلويات والفواكه والكعك ما يكفي لعشرين شخصًا. وقبل ان نفترق قدم لي الطبعةَ الجديدة لروايته quot;اللص والكلابquot; مع الإهداء التالي:
quot;الى الدكتور مناحم ميلسون, رمز مودة خالصة وتقدير بلا حدود وتحية لذكرى لقاء سعيد أرجو ان يتكرر مع الايام. المخلص نجيب محفوظ 19 ndash; 6 ndash; 1979 quot;
وفيما بعد، علمت ان دعوة نجيب محفوظ لي للقائه في بيته وفرصةَ التعرف على زوجته كانت شرفًا عظيمًا ونادرًا لم يحظَ به الا القلائل، فان محفوظ كان يعتبر بيته حِصنا خاصا ولم يسمح الا لابناء عائلته بالتعرف على زوجته، السيدة عطية الله ابراهيم.
وفعلا، لم تكن هذه الزيارة زيارَتي الاخيرة لمصر ولا للسيد نجيب محفوظ، فقد زرته عدة مرات، وفي سنة 1998 جئت لأقدم له كتابي الذي كتبته عنه باللغة الانجليزية
(Najib Mahfuz: The Novelist Philosopher of Cairo)
quot;نجيب محفوظ ndash; الروائي الفيلسوف من القاهرةquot; وهو عبارة عن دراسة لسيرة حياته ولأعماله الروائية، وللأسف الشديد، كان ذلك آخرَ لقاءٍ لي معه.
أما الآن، فإلى موضوعنا: ما ظهر من الإسمِ وما خفي
أبدى نجيب محفوظ في أعماله الادبية اهتماما بالغا في اختيار أسماء الشخصيات، ولم تَخْفَ هذه الظاهرة على معظم القراء، وقد ذكرها عدد ممن كتبوا عن أعماله. ولكنّ أحد الباحثين، وهو الدكتور عبد المحسن طه بدر, اعتبر هذه الظاهرة، أي ظاهرة اهتمام الكاتب باختيار أسماء الشخصيات، اعتبرها عيبا أدبيا ينال من قيمة أعماله ولا يليق بمستواه الادبي. وأنا أُورِدُ حرفيًّا ما قال: quot;وتسمية المؤلف للشخصيات تتضمن حكما مسبقا عليها وتقييما من المؤلف لسلوكها سواء أكان الاسم يتفق مع صفات الشخصية وسلوكها، او يتناقض مع سلوك الشخصية وصفاتها بقصد السخرية منها والتهكم عليهاquot; (بدر، ص. 259). ويحكم على طريقة محفوظ في تسمية شخصياته بانها quot;طريقة آلية ومتعسفةquot; (بدر، ص. 249) ولم يقِفْ عند ذلك بل تمادى قائلا quot;[إن الدارس] لا يستطيع إلا الشعور بالاسى لأن هذا الجهد الرائع يبدو في غير موضعه ولأنه يحكم على الشخصية حكما مسبقا قبل ان تمارس أي فعل، ولانه يُفقِدُ أعمال الشخصية كلَّ تلقائية ضرورية للعمل الروائي الجيدquot; (بدر، ص. 260).
ومع تقديري لهذا الباحث ولأعماله فإني لا أوافق إطلاقًا على هذا الحكم، وأرى أنّهَ لم يُصِبْ في حكمه، ربما لانه لم يفهم المغزى العميق في اختيار محفوظ للاسماء، ولهذا الموضوع بقيةٌ وصلة، وسأعود اليه في محاضرة خاصة في القريب إن شاء الله. والجدير بالذكر أن اهتمام محفوظ بالأسماء لم يقتصر على عنايته الخاصة بربطِ أسماء شخصياته بمدلولاتها، وإنما تظهر كذلك في اهتمامه بطبيعة العلاقة بين الإسم والمسمى أو بعبارة أخرى ndash; بين الاسم/الكلمة من جهة والحقيقة/الواقع الملموس من جهة أخرى. وهذه الثنائية شبيهة بثنائية الظاهر والباطن المعروفة في التصوف. وهنا أود ان أُذكِّركم بأن محفوظ كان قد كتب أطروحة الماجيستير عن فكرة الجمال في التصوف. وهذا يوضح للجميع أن كاتبنا كان ملمًّا بالفكر الصوفي. لقد زرع محفوظ ملاحظات عديدة في قصصه المختلفة تشير إلى هذه الثنائية المذهلة والمستعصية ndash; ثنائية الاسم والحقيقة، فإنها أحيانًا ثنائيةُ تشابُهٍ وأحيانًا أخرى ثنائيةُ تناقضٍ ثم قد تكون في بعض الأحيان ثنائيةَ الأضداد حيث تعبِّر الكلمة الواحدة عن معنيين هما على طرفي نقيض.
وهاكم بعضَ الأمثلة على ذلك:
bull;quot;إذًا هو حب إسمي فحسبquot; ndash; هذا ما يقوله حسنين لبهية عندما لا تسمح له بتقبيلها. (بداية ونهاية، ص. 108)
bull;quot;سمِّه كما شئت، تعدَّدَت الأسماء والفعل واحد!quot; (قصر 104) ndash; هذا ما يقول أحد أصدقاء السيد أحمد عبد الجواد لما أشار السيد إلى رغبته في سهرة عشق مع العوالم وقال إنه يريد quot;الاستمتاع بالمجالسة والمؤانسةquot;
bull;quot;عائدة والألم لفظان لمعنى واحدquot; (قصر الشوق، ص. 291) ndash; يقولها كمال محاورا نفسه وهو يعاني من حبه الخفي لعائدة.
bull;quot;لم يبقَ من شخصها القديم إلاّ الإسمquot; (السكرية، ص. 233) ndash; يقال عن عائشة أُخت كمال الجميلة التي هرمت (وهذا يعني ان الاسم قد يكون خادعا وان كان quot;صحيحاquot;)
هذِهِ الأمثلة ليست إلا quot;غيض من فيضquot;

وتظهر أهمية الأسماء عند محفوظ بكلّ وضوح عندما إختار أن يؤلِّفَ بعضَ قصصِهِ على نمط تخطيطٍ قِوامُهُ الأسماءُ الشخصية. ولعل خيرَ مصداقٍ لِما نذهب اليه ndash; رواية المرايا (1972) المكونة من 55 صورة لاشخاص كان لهم دَوْر في حياةِ الراوي وكلٌّ منها مُعَنْوَنة بإسمِ الشخصيةِ صاحبةِ الصورة، ومرتَّبَةٌ ترتيبًا ابجديًا. ونشهدُ نموذجًا آخر لنفسِ الترتيب الأبجدي للاسماء في روايةِ حديث الصباح والمساء (1987)، وقصة صباح الورد (1987) إلا أن هذه الأخيرة مبنية على اسماء العائلات. وهذه الامثلة لا تستقصي قائمةَ أعمالِه المؤسسة على الأسماء.
إذًا، ما من شكٍّ في أنَّ إهتمامَ كاتبِنا بالاسم ليس مجردَ لعبةٍ ادبية او نوعٍ من التهكم يشاركُ قرَّاءَهُ بِهِ وإنما هو أمرٌ بالغُ الاهمية، له علاقةٌ وثيقة بنظرة محفوظ للحقيقة واللغة وطبيعة الصلة المتبادلة بينهما.
وماذا عن إسم نجيب محفوظ؟ وهل يجوز الافتراض أن اهتمامَهُ الخاص بالأسماء نَجَمَ عن إهتمامه باسمه؟ هل هناك سرٌّ وراءَ اسمِ نجيب محفوظ؟
في كل فهارس المكتبات يأتي اسمُ كاتبِنا بشكلٍ عادي، أي: محفوظ فاصلة نجيب، تمامًا كما يأتي اسم ديكنز فاصلة تشارلز، أو شكسبير فاصلة وليام، وكأنَّ محفوظ هو اللقب أي اسم العائلة (أو اسم الوالد)، ونجيب هو اسمه الشخصي لكن في سنة 1970 نُشِرت مقابلة مع الدكتور أدهم رجب، وهو من أصدقاء نجيب محفوظ المقربين، جاء فيها ما نصه:
quot;إسم نجيب محفوظ جنى عليه فقد حُرِم من البعثة إلى فرنسا بسبب ذلك الاسم، ولا أستطيع أن أُفصح لحساسية الموضوع... والاسم الكامل لنجيب محفوظ هو quot;نجيب محفوظ عبد العزيز السبيلجيquot; ولكنه كان يُوقِّع على أوراقه الرسمية ووثائقه باسم quot;نجيب محفوظquot; فحسب !... وبسبب هذا الاسم أفلتت منه فرصة العمر...quot;
وأما نجيب محفوظ فيقول معلقًا على ذلك : quot;بل ضاعت عليّ بعثتان لا بعثة واحدة. بعثة في الفلسفة وبعثة في اللغة الفرنسية. والسبب فعلا هو اسمي.. وقد تحرج الدكتور أدهم من رواية السبب وَلَسْتُ أرى سببا للحرج فقد راح ذلك وانتهى. القصة هي أنّ السراي كانت تضطهد الأقباط لأنها كانت ترى أنهم عُمُدَ الوفد. وقد اشتبهوا في اسمي ظنًا منهم أنني قبطي. وكنتُ ثانيَ دفعتي وكان الأولُ قبطيًا فقالوا: يكفي قبطي واحد... وأخذوا الأول والثالث وتخَطَّوْني....quot;
فما هو السر وراء هذا الاسم ولماذا ظن أعضاء اللجنة ان نجيب محفوظ قبطيّ؟
لم يكن quot;محفوظquot; اسمَ والدِهِ ولا إسمَ العائلة انما هو جزء من إسمه هو, فإسمه مركب، وهو الاسم الذي اختارته والدتُهُ لمولودها، حيث سَمَّته على إسم الطبيب الذي ساعدها في ولادتها العسيرة له، وكان هذا الطبيب من أشهر الاطباء في القاهرة في حينه، الدكتور نجيب محفوظ، الذي كان من عائلة قبطية معروفة، عائلة محفوظ.
ونجيب محفوظ فضَّل من سن مبكرة، وهو طالب في المدرسة الثانوية، ان يُعرِّفَ نفسه وان يوقع على كل أوراقِهِ بهذا الاسم المركب، شاطبًا إسمَ والدِهِ عبد العزيز إبراهيم، وما من شكٍّ في أنَّ محفوظ، لو كان سجل إسمَهُ الكامل نجيب محفوظ عبد العزيز لما أخطأت اللجنة ولما اعتبرته قبطيًا.
وهنا المجال للتَّساؤُل: ما سببُ حذف نجيب محفوظ لاسمِ والدِهِ؟
طبعا أولَ ما يخطر على البال، ألقول بأنه أراد بذلك ان يختصر الاسم حتى لا يكون طويلا، لكني لا أرى أن هذا التفسير مقنع، فلو أنه أراد تقصيرَ الاسمِ فقط لكان بإمكانه أن يوقعَ quot;نجيب عبد العزيزquot;، لذا أرى ان هناك أسبابا أخرى لم يفسرها نجيب محفوظ ولها علاقة بمواقفه الفلسفية والاجتماعية والاخلاقية.
نعلمَ أنَّ محفوظ في كل أعماله الروائية اتخذ موقفَ المعارض والناقد للنظام الابوي في العائلة والمجتمع، لذا فإني مقتنع بان حذف اسم الوالد من اسمِهِ هو بمثابةِ رفعِ رايةِ الثورة على النظامِ الابوي, أَضِفْ الى ذلك أمرا هاما وحساسا، له علاقة بمعنى الاسم عبد العزيز، فالعزيز هو اسم من أسماء الله الحُسنى، لذا فطرحي هنا هو ndash; أنَّ الامر يتعلق ليس فقط بموقف محفوظ من النظام الابوي بل أيضا بمواقفه الدينية ndash; والامران متشابكان ndash; واليكم ما قاله كاتِبُنا على لسانِ كَمال، بطل الثلاثية، الذي هو ndash; كما هو معروف ndash; الأنا الثانية للكاتب أي الشخصية المُمَثِّلة لحياة محفوظ الروحية :
quot;كلّ شيء في هذا البيت يخضعُ خضوعًا أعمى لإرادةٍ عليا ذات سيطرة لا حدَّ لها هي بالسيطرة الدينية أشبهُquot;
ثم يقول كمال محدِّثًا والدَهُ في ذهنه :
quot; لم نعرفْكَ صديقًا كما عَرَفك الغرباء، ولكنا عرفناك حاكما مستبدا شرسا طاغية... ولكِنْ لستَ وحدَك الذي تَغَيَّرَتْ فكرتُهُ، اللهُ نفسُهُ لم يَعُدِ اللهَ الذي عبدته قديما، إني أُغَرْبِل صفات ذاته لأُنقّيها من الجبروت والاستبداد والقهر والدكتاتورية...quot;
والعزيز كما نعلم اسم يدلّ على القوة القاهرة المطلقة، كما يظهر ايضا في اللقب الذي اطلقه القرآن الكريم على حاكمِ مصر ايامَ يوسف الصديق وهو quot;عزيز مصرquot;، أما كاتبُنا فهو الذي رفض القهر والاستبداد ويرى أنَّ الحرية هي القيمةُ الأولى لحياةِ الإنسان. ولذا أرى أن نجيب محفوظ نأى بنفسه عن اسم والده عبد العزيز، معبِّراً بذلك عن موقفه الفلسفي والاخلاقي من النظام العائلي... والكوني.