قراءة في المشهد الايراني و آفاقه المستقبلية
-1-

الحديث عن إيران و تأريخها الحديث، حديث ذو شجون و يدخل في الکثير من الزوايا و المنعطفات و يسلط الاضواء على أحداث و قضايا مختلفة ترسم في آفاقها صور اوضاعا يبدو من سياقيها العام و الخاص، أن حالة من الاستقرار الهش و المتذبذب هي التي تفرض نفسها على هذا البلد المهم و الحساس و ذو الموقع الاستراتيجي و لعل السير الغريب لمسار الاحداث و الاوضاع الدراماتيکية التي مرت و بها إيرانquot;ولاتزالquot;، تبين بجلاء أن هذا البلد مازال لم يستقر على حال وانه في فورة مخاض صعب و معقد قد يطول لکنه و في نهاية المطاف، لابد من أن يرسو على بر و تنال إيران إستقرارا صعبا عانت الکثير و قدمت الاکثر في سبيله.

نصب رضابهلويquot;والد الشاه الذي اسقطته الثورة الايرانية في 11 شباط 1979quot;، کشاه لإيران و السعي المفرط له لفرض نمط غربي غير عادي على المجتمع الايراني المحافظ جدا و المتمسك بالقيم الدينية الى درجة کبيرة، کان منذ البداية بمثابة إيذان بتضاد و تعاکس بين النظام و بين الشعب، فلم يکن بوسع الشعب الملتزم بصورة فطرية و عفوية بقيمه الدينية أن يصبح بين عشية و ضحاها مجتمعا منفتحا و متطورا و مؤمنا بالقيم و الافکار الاجتماعية الغريبة عليه، مثلما کان من الصعب على رضا شاه و الدائرة الملتفة من حوله أن تتفهم تلك الحقيقة وکانت تتصور من أن منطق الجزرة و العصا ستکون کفيلة في النهاية بدفع الشعب الايراني للمثول و الرضوخ لإرادة الشاه بقبول الواقع الذي يريده، والحق، ان هذا التصرف الخاطئ من جانب الشاهquot;کحال کل التصرفات الصادرة من جانب معظم النظم الدکتاتورية في العالمquot;، قد جعل النظام غريبا على الشعب بل وجعله ينظر إليه کحالة فوقية تتمثل بالقهر و الظلم الاجتماعي ولم يکن خلع رضا شاه إلا بسبب من إخفاقه المريع في سياساته الفوقية الفاشلة جملة و تفصيلا والتي يبدو ان أبنه محمد رضا الذي نصب من بعده، لم يأخذ العبرة الکافية منه وانما ظل يدور في حلقة مفرغة من أجل تمضية الوقت إن صح التعبير وليس أي أمر آخر، إذ أن الاصلاحات الارضية التي نادى بها الشاه و التي کانت بطلب و توجيه أمريکي بحت، کانت هي الاخرى شکلا من أشکال النظم الغريبة و الفوقية المفروضة على الضد من رغبة و إرادة الشعب الايراني، ولم تکن هذه الاصلاحات المزعومة إلا نوعا من عملية تغيير فج و خشبي لنظام إقطاعي متخلف الى نظام شبه رأسمالي مشوه يميل الى التخبط ولذلك لم يکن بوسع الشعب أيضا تفهمه و إدراکه خصوصا وانه کان يحدث بطرق و اساليب ملتوية و غير مستقرة على حالة معينة، رغم أن الشاه بنفسه ظل لفترة ما مترددا و عائقا أمام هذه الاصلاحات، لکنها وفي نهاية المطاف و بإرعابه بالثورة الوشيکة من جانب الشعب رضخ مجبرا للأمر، وان النقطة المهمة و اللافتة للنظر هنا، هو أن الولايات المتحدة الامريکية کانت تحث الشاه على تلك الاصلاحات لأن نظامه مهدد من الاسفلquot;أي من قبل الطبقات و شرائح الشعب العامةquot;، وعندما زار الشاه الولايات المتحدة الامريکية في عام 1963، حيث کانت الضغوطات الامريکية الممارسة ضده في اوجها، کتبت صحيفة quot;الواشنطن بوستquot; بهذه المناسبة قائلة:( الحکومة الامريکية تثق بصورة کاملة من ان الشاه برغبته القوية من أجل إيجاد إصلاح جذري في بلده، قد بذل جهودا جريئة لکي يحول دون ثورة قادمة من تحت)، أما الشاه من جانبه وفي تلك المرحلة الحرجة من التأريخ الايراني المعاصر حيث کان معظم المحللين الامريکيين يتصورون بأن القرى الايرانية في حالةquot;إنفجارquot;مرتقب و يتوقعون حدوث ثورة نظير الثورة الکوبية فيها بحيث أن إيران في النهاية تولي وجهها صوب الاتحاد السوفياتي، فقد خاطب ضيوفه الامريکيين خلال تلك الزيارة بقوله:( منذ فترة و نحن نسمع ليس من جانب الاعداء وانما حتى بعض من أصدقائنا المتحالفين معنا بأنهم يتوقعون في إيران وضعا قابلا للإنفجار و سيتمخض من جراء ذلك الانفجار أحداث، ان إيران بمعاونة أصدقائها في العالم و على رأسهم الدولة الکبيرة أمريکا، سوف تمضي في طريقها و سوف لن يقع أي حدث طارئ).

وبعد عودة الشاه من واشنطن، قام بسلسلة تغييرات طالت رئيس الوزراء علي أميني و عين مکانه اسد الله علمquot;الذي کان إقطاعيا کبيراquot;، وقد أبدت واشنطن حينها وفي نفس العام تحديداquot;1963quot; وعلى لسان ليندون جونسن الذي کان نائبا للرئيس الامريکي حينئذ جون کندي تإييدها الکامل لخطوة الشاه عشية زيارة رسمية له لإيران بقوله:(نحن نقدر المساعي الحثيثة التي تتم تحت قيادة جلالته لمواجهة المشاکل التي تعترض البرنامج الاصلاحي و العمراني الداخلي، نحن نعلم أنکم تسعون کي تتحسن الاوضاع العامة لشعب هذا البلد، ومن أجل ذلك إلتزمنا تإييد إيران و ان سفري يجسد هذه الرغبة و هذا الالتزام). هذا التإييد الامريکي المحموم quot;الذي کان في خطه العام يطمح الى جعل إيران حاجزا و سدا و مانعا قويا أمام المد السوفياتي في المنطقة،quot; وتلك الادعائات غير الواقعية للشاه، ومجمل ماکان يسمى بالاصلاحات الارضية، کانت جميعها أشبه ماتکون بلوحة سريالية تضعها أمام فلاح بسيط کي يفهمها و يتقبلها.

وجريا على عادة الحکام المعزولين عن شعوبهم، فإن الشاه و لثقته المفرطة بالتإييد و المساندة الامريکية له، فقد عمد الى أسماهquot;الثورة البيضاءquot;، وهي مجموعة إجرائات إقتصادية و سياسية و إجتماعية کانت تهدف اساسا الى تفعيل و تطبيق الاصلاحات الارضية المزعومة ولکن بحلة جديدة، هذهquot;الثورة البيضاءquot; قد بدئها الشاه بأولquot;مؤتمر کبير للمزارعينquot; والذي شارك فيه ممثلو 30 ألفا شرکة و اتحاد تعاون قروي و أنيطت الرئاسة الفخرية لهذا المؤتمر بالشاه الذي قال ضمن خطاب له في هذا المؤتمر(بدء تغييرات إجتماعية جديدة)، وفي ختام خطابه أعلن البنود الستة لثورته البيضاء والتي طلب التصويت عليها من جانب الشعب، والبنود الستة کانت عبارة عن:

1ـ إلغاء النظام الاقطاعي. 2ـ تأميم الغابات في سائر ارجاء البلاد. 3ـ بيع أسهم مصانع الدولة کتإييد للإصلاحات الارضية. 4ـ إشراك العمال في ارباح المعامل الانتاجية و الصناعية.5ـ إصلاح قانون الانتخابات. 6ـ إيجاد جيش العلم من أجل تسهيل تنفيذ قانون التعليمات العامة و الاجبارية. وقطعا لم يتم تنفيذ کل هذه البنود رغم أنه قد تم إضافة ملحقات إضافية عديدة أخرى لهذه البنود، لکن هنالك أمر مهم متعلق بالبند الخامس و الخاص بإصلاح قانون الانتخابات إذ بموجب ذلك کان يستوجب إعطاء المرأة حق التصويت والذي عارضه الخميني بادئ الامر بشدة ضم إنضم إليه لاحقا رجال دين آخرون و أصدروا بيانا عارضوا فيه بشدة ذلك عندما قالوا:(تدخل النساء في الانتخابات او إعطاء الحق للنساء او إنخراط نصف من سکان إيران في المجتمع و نظير ذلك من التعبيرات المخادعة، ليس تعني شيئا سوى التعاسة و الفساد و الفحشاء)، وعلى أثر هذا البيان و مواقف أخرى من جانب رجال الدين و مانجم عنه من تداعيات و أمور استثنائية کمهاجمة القوات الخاصة الحکومية بأمر من الشاه للمدرسة الفيضية بقم وانهالوا ضربا على الطلاب حيث جرح عدد کبير منهم و أضرموا النار في الممتلکات و الکتب و أهانوا المراجع و العلماء، کل ذلك أدى الى إندلاع إنتفاضة 15 خرداد عام 1964، حيث وجه فيه الخميني خطابا لاذعا الى الشاه وانتقده بشدة وعلى أثره أمر الشاه بتوقيف الخميني وإبعاده من البلاد. وکان إبعاد الخميني قد ساهم والى حد کبير جدا في إطفاء جذوة المقاومة غير المنظمة و الموجهة ضد نظام الشاه و اجهزته القمعية المدججة بکل اسباب القوة ولديها بحسب تلك الظروف أفضل الامکانيات، ومن هنا فقد کان للإستقرار النسبي الذي ساد إيران بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة، إذ طفق الشعب الايراني من خلال الجيل الجديد يتململ من الاوضاع السائدة و يعلن تبرمه و ضجره و سخطه من کل الذي يجري و يبحث عن مخرج او صيغة حل لما يعانيه الشعب من ظلم و جور.