حينما أسدلت ستائر الحرب العالمية الثانية وتوقفت طواحينها التي سحقت الملايين من شعوب العالم، كما فعلت قبلها طواحين الحرب الأولى واتفاقيات زعمائها التي ادعت أنها تلملم جراحات الشعوب في صلح لوزان فتلغي وتمسخ أي خريطة طريق لمعالجة تلك الجروح التي رسمتها معاهدة سيفر؟ كان ثمة رجال يبحثون عن الربح والخسارة في تلك الحروب، وثمة آخرين يلعقون جراحهم بعد إن سحقتهم تلك الطواحين العمياء، وربما كان المنتصرون يتبادلون الأنخاب المعفرة بالدماء وأرباح السلاح وهم يقيمون احتفالاتهم على جماجم الملايين من الضحايا؟ في تلك المعمعة الكبرى وحفلات تقاسم الأرباح والخسائر بين المنتصرين والخاسرين من السياسيين وتجار السلاح، كان ثمة رجال آخرين لهم موعد مع الأقدار التي لم يتم حسبانها في جداول أعمال اولئك الخارجين من أتون الحرب في أول النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي، وربما ان فرحة الانتصار او مأساة الهزيمة أنسى الكثير منهم فواجع شعوب لم يك لها مصلحة في كل ما جرى، بل على العكس كانت تتحمل وزر تلك الحروب ومآسيها وقد خسرت ايضا فرصتها تحت الشمس. كان مصطفى البارزاني واحدا من ابرز اولئك الرجال الذين بدأوا رحلتهم من اجل الحرية والانعتاق بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انطلق يقود خيرة رجاله ورفاق دربه الى مشروع قومي كبير في النصف الثاني من اربعينات القرن الماضي وفي قلب الشرق الأوسط بين أربعة دول تقاسمت ارض الوطن الحلم، لم تكن رحلته مجرد حملة إنقاذ او قوة لدعم انبثاق جمهورية في شرق الوطن، بقدر ما كانت عملية تاريخية لتحريك مخزون هائل لدى الشعب عبر قرون طويلة من التغييب والإذابة والتهميش، والبحث عن مكان تحت الشمس في العالم الجديد بعد توقف الحرب العالمية الثانية وتقاسم تركيا والعراق وسوريا وايران ارض الوطن؟ لقد كانت الخطوة الأولى باتجاه بلورة نهج يحفز الشعب على النهوض، ويتجاوز الاستكانة والانغلاق وينطلق من المناطقية وثقافة الإمارات والقبائل، الى مشروع قومي خلاق يتميز بروح نضالية عالية وبسلوك متحضر وراقي في التعامل والتعاطي مع مفردات القضية الكوردية، ابتداءً من الأرض والطبيعة والشعب بكافة طبقاته ومكوناته، وكيفية التعامل مع العدو والتأكيد دوما على ان الصراع ليس مع العرب او الترك او الفرس بقدر ما هو صراع مع النظم السياسية المستبدة، وان الكثير ممن يقاتلون مع جيش العدو إنما مغرر بهم او مغصوبين على ذلك. بهذه الأسس الأخلاقية النبيلة وضع الملا مصطفى البارزاني بداية مشروعه الحضاري للنهوض بشعبه ووطنه والانعتاق من اغلال الاستبداد السياسي والاجتماعي والقبلي والطبقي، فقد جمع حوله مختلف الشرائح والمكونات والطبقات والمستويات، وأشاع بينهم جميعا انماطا رفيعة من العلاقات الإنسانية التي يعبقها الزهد والنزاهة المالية والتعالي على صغائر الأمور، وأبقى دوما مساحات اللقاء والتحاور والتفاوض وقبول الآخر حتى مع العدو، فقد كان يشرح لرجاله دوما ان العسكري الذي يحاربكم اليوم ليس عدوا بل مضطرا ومغلوبا على أمره، وغدا سيكون أسيركم فكونوا له إخوة وأصدقاء. كان يحث كل مفاصل قواته العسكرية على ان الفروسية التي تتمثل باحترام الأسير واعتباره ضيفا وإكرامه حتى يتم تحريره، والابتعاد تماما عن أي عملية اغتيال أو إرهاب او قتل لمدنيين لا علاقة لهم بالصراع، وان مهمتنا هي الدفاع والدفاع فقط للحفاظ على شعبنا وتحقيق حريتنا وزرع مفاهيم الأخوة والعيش المشترك في وطن حر وديمقراطي يحترم حقوق جميع البشر، بهذه الروح ابتدأ البارزاني مشروعه النهضوي دونما ادلجة او نظريات فلسفية، بل بمنظومة سلوكية ميدانية تتعلق بالجانب الأخلاقي للقضية الإنسانية عموما ومنها القضية الكوردية وحقوق الإنسان أينما كان وفي أي زمان، وبذات النهج حقق الكوردستانيون عموما والكورد خاصة الكثير من أهدافهم خلال السنوات التي تلت انتصارهم في انتفاضة الربيع وتحقيق السلام والوحدة والازدهار. ان الثمار التي تقطف اليوم هي لتلك الأشجار التي زرعها البارزاني الخالد وروتها دموع ودماء المناضلين والشهداء من أبناء الوطن، وحري بالجميع وعلى مختلف المستويات والمسؤوليات أن يكونوا بمستوى الوفاء لتلك الأفكار النيرة والنهج الطاهر والنقي، الذي رسمه البارزاني مصطفى لتأسيس مشروعنا الحضاري بعيدا عن الغلو او التطرف او الفساد، ويقينا ان المؤمنين بذلك النهج القويم سينتصرون لمبادئه وتطبيقاته ويحافظون عليه من أي محاولة لإفساد التجربة او الانتقاص منها وتشويه مسارها، بما يؤمن اقليما ديمقراطيا حرا خاليا من الفساد والظلم ومتميزا بالعدالة والنزاهة والطهر.
- آخر تحديث :
التعليقات