من الاقوال الغريبة التي نسمعها تتردد حول هذه الثورات التي تكتسح العالم العربي وترمي الى مزابل التاريخ بانظمة اجرامية دموية، تلك التي تتساءل عن البديل، وتعبر عن تخوفها من الفراغ الذي ينشأ عن ازالة هذه الحكومات وما يتبعها من مخلفات، وهي اقوال نسمعها تتردد على المستوى الشعبي، فنفهم احيانا دوافعها لان موقعة مثل موقعة الجمل الشهيرة في ميدان التحرير وما حدث من تسيب امني في القاهرة بعد سحب الشرطة الذي اعقب تلك الموقعة، يجعل المواطن خائفا حائرا يسال عمن سيحفظ له الامن بعد انهيار النظام، وقد نفهم ايضا ان يقوم بطرح هذ السؤال بعض ذيول النظام المنهار، وهو انهيار ياتي دائما كما تاتي الزلازل التي تعقبها توابع وهزات صغيرة تجعل القلق ينتاب دوائر اكثر اتساعا من دوائر الحلقة الاولى، مثل القوى الكثيرة التي تعمل على مستوى الدواخل والمحافظات كما حدث عندما صدر حكم القضاء بحل المجالس المحلية وهي مجالس تضم اعدادا كبيرة من البشر وتربطها مصالح وتعاملات مع قاعدة عريضة من المجهور، فهؤلاء اصحاب مصلحة في السؤال عن البديل الذي يريدون ان يضمن لهم بعض المنافع التي كانوا يحصلون عليها، ولكن المشكلة الاكبر عندما ياتي الطرح على مستوى قوى سياسية تعمل على ساحة الوطن، اوياتي،وهو امر اكثر فداحة، على مستوى النظام الاقليمي، ثم نراه ياتي وهنا مربط الفرس فيما اريد قوله، على مستوى القوى الدولية وهي تسأل عن بديل لانظمة شرعت الشعوب في كنسها كما تكنس الزبالة. ويصبح هذا السؤال كانه سؤال كبير بحجم الفضاء الذي تشغله هذه الشعوب،لانه سؤال يتكرر مع كل نظام ينهار او يوشك على الانهيار ليصبح سؤالا يتصل بمنطقة من العالم، وبجزء مهم من اجزائه هو العالم العربي، ومهما ابدينا تفهما له على مستوى المواطن البسيط الذي يعنيه الامن ربما قبل اي شيء اخر، وتفهما اكثر على مستوى النظام المنهار نفسه وجماعاته واتباعه من المنتفعين واصحاب المصلحة في فساده واجرامه، فانه يبقى سؤالا غريبا وعجيبا عندما نراه ياتي من اوساط اكثر تاهيلا ومعرفة وخبرة باوضاع المجتمعات الانسانية ومعطيات الواقع السياسي والشروط التي تحكم الدول والقواعد التي تخضع لها، ويطرح السؤال عن البديل وكان هذا الذي يتقوض وينهار بفعل ثورة الشعب، حكم رشيد نريد استبداله بشيء احسن منه، او انظمة تملك تفويضا شعبيا حان الوقت لسحبه منها واعطاء التفويض لقوى جديدة، هنا يكون السؤال معقولا وطبيعيا، ولكن هذه القوى السياسية المحلية والاخرى ذات المستوي الاقليمي، ثم القوى الكبري وذات الطابع الدولي والعالمي، كلها تعلم ان هذه الانظمة التي يجتاحها تسانومي الغضب العربي، لم تكن انظمة سياسية بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، ولم تكن حكومات تتوافر على الحد الادني من الشروط الواجب توافرها فيمن يتصدي لحكم المجتمعات الانسانية، ولا تملك تفويضا شعبيا للحكم ولا قاعدة من الاتباع تؤهلها لذلك، وهي حكومات اقرب في طبيعتها وتركيبها وتكوينها الى العصابات، بل راينا كما يحدث الان في ليبيا وسوريا واليمن حالة انكى من مستوى المافيا، لان للمافيا حدا ادنى من قواعد العمل، فهي لا تقتل البشر بشكل عشوائي، وانما تقتل اهدافا معينة تعوقها عن الوصول الى اغراضها، ولكن هذه الانظمة في قصفها العشوائي للمدن تقتل الاطفال وتقتل النساء وتقتل الشيوخ وتقتل المصلين في المساجد والمعابد، بل وترتكب من الموبقات والانتهاكات للحرمات والاعراض ما تستحي كائنات الغابة نفسها من ارتكابه، فكيف يكون معقولا ان ياتي من يسال عن البديل، لانه سؤال لا ينفع اطلاقا في مثل هذه الحالة، فهل جاء من يسال المانيا عن البديل وقد اسلم الشعب اعناقه للرايخ الثالث وزعيمه هتلر يذبح ويحرق فئات من المجتمع مثل الهنود والغجر والشيوعيين، وهل جاء من يسال الشعب الايطالي وهو يعاني القهر والرعب تحت حكم موسيليني والحزب الفاشي عن ماذا يكون البديل؟ لقد اكتسحتهم في البلدين جيوش الحلفاء وارست مع القوى الوطنية في هذه المجتمعات القواعد للحكم الجديد دون ان تنتظر البديل، فهل تريد هذه القوى مثلا للسيد بشار الاسد ان يستمر في قتله وحكمه، لان هناك غموضا في معرفة البديل، وهل يريدون للسيد العقيد وكتائبه الامنية ان تستمر في قصف المدن الليبية وقتل المدنيين وقصفهم بالراجمات والمدافع وانتهاك اعراضهم الى ان يرضى السيد المجتمع الدولي او النظام الاقليمي العربي عن البديل وكذلك مع على عبد الله صالح في اليمن، ام التعامل مع هذه الحكومات بسرعة وحسم وتعاون دولي تحتمه الضرورة الانسانية وتحتمه قواعد التعامل بين الناس التي يجب ان تسعى للحيلولة دون ارتكاب الجرائم وازهاق الارواح واراقة الدم البري، لتعجل بنهاية هذه الانظمة المفيوزية وليتولى فيما بعد اهل البلاد ترتيب امورهم بما يتحقق بينهم من توافق وما يلبي ارادة وحاجة الناس من مؤسسات وسياسات، وما يؤمن البلاد ويحميها من الوقوع في عصابات الحكم المفيوزية مرة اخرى.
فهي انظمة انقلابية تولت السلطة اغتصابا وقهرا، واحلت عناصر لا تاهيل لها ولا خبرة ولا جدارة في كراسي الحكم دون عودة الى الشعب، ودون مشروعية، وسعت الى تابيد حالها وارغام الشعوب على القبول بالامر الواقع، وان لم تقبل فان اجهزة القمع البوليسية موجودة للقيام بالواجب مع المارقين والمنحرفين ولهم اسماء في قاموس كل نظام فهم في ليبيا الجرذان وفي سوريا العملاء والشبيحة وفي اليمن البلاطجة والمتآمرون، وهكذا، ولناخذ اي حكم انقلابي ونرى كيف جاء وبمن جاء وعلى حساب من جاء ولمن كان بديلا، وليكن هذا الحكم الانقلابي الذي جاء في دفعة الاسد والقذافي وحسن البكر وهو نظام النميري في السودان، حيث قام بالانقلاب ضابط في الجيش اسمه جعفر النميرى، صحا في الفجر وامتطى دبابته وداهم بها الاذاعة ليعلن بيانه الاول الذي نصب فيه نفسه حاكما على السودان والاطاحة بالنظام المهادن للاستعمار والرجعية كما يدعي زورا وباطلا، ولم يكن هذا النظام الذي ثار عليه وقام بالاطاحة به الا نظاما ديمقراطيا شرعيا تعدديا يقوم على الفصل بين السلطات والوصول الى الحكم عن طريق الاقتراع والحياة البرلمانية والحزبية وكان رئيس الدولة رجلا من اباء الاستقلال السوداني مشهود له بالنزاهة والامانة والسجل النضالي الحافل بامجد الاعمال هو السيد اسماعيل الازهري،وكان رئيس الوزراء استاذا كبيرا وشاعرا من اهل الفصاحة والجزالة وصاحب سجل نضالي ومشاركة في جلب الاستقلال للسودان هو السيد محمد احمد المحجوب وكانت له مساجلات ومحاورات مع عظماء الشعراء في عصره، ومعهم نخبة من اهل السودان من البرلمانيين، ورجال الاحزاب، وكانت السودان مضرب مثل في دقة النظام الاداري الذي يضاهي المانيا وبريطانا في سمعته وقوته وادارة دواليب الدولة بما في ذلك شبكة القطارات وشبكة الري وتصريف مياه النيل، لان اهل السودان اجادوا اللغة الانجليزية وتعلموا من خبراء الادارة البريطانيين، والتزموا بالنظام الاداري الذي تركه لهم الانجليز، وعلى مستوى السياسة يذكر الجيل الذي عاصر تلك الاحداث، ان السودان واهل الحكم في السودان بما لهم من دراية وثقافة وحكمة هم الذين كانوا بلسما لاوجاع الامة العربية بعد النكسة الماحقة الساحقة التي لحقت بالعالم العربي، عندما دعت حكومة السودان الى مؤتمر للقمة العربية، تحققت فيه المصالحة بين الملك فيصل والرئيس عبد الناصر، وتم فيه راب الصدع العربي وتقررت فيه صناديق المعونة لمحو اثار العدوان وتحقق اجماع العرب على اللا ءات الثلاثة التي كانت ردا على الهزيمة.
فمن تراه جاء بديلا لؤلئك الرجال الافذاذ، جاء رجل كل تاهيله العلمي سنتين في دراسة الامور العسكرية بعد التعليم الاولي، واحضر في معيته ضباطا اصغر منه شانا وقيمة وتعليما وبعد ان كان الحكام في العهد السابق له، وزراء ورؤساء وزراء ورؤساء جمهرية ممن يؤلفون الكتب، جاء الجهلة الذين لم نسمع عن واحد منهم انه قرأ كتابا، وبدا السودان على ايدي الانقلابيين يفقد قوته الاقتصادية وينزل الجنية الى مستويات دنيا وترتبك حركة الري والقطارات، ويهبط مستوى الاداء الاداري الى اسفل الدرجات وتبقى الحياة الثقافية والاجتماعية، اخلاقا وعلما وتعليما وادبا وفنا وفكرا واعلاما،تعاني التجريف والتحريف والتدميروالافلاس، ويحصل نزيف للادمغة والكفاءات والخبراء، ويهجر السودانيون من اهل العلم والمعرفة بلدهم تحت ظروف القهر وغياب الحريات، وتتفجرالصراعات الاثنية والثقافية والاقتصادية الى حد ان يحارب الشمال الجنوب، وتبدا في دار فور ارهاصات الحرب الاهلية في المنطقة،ويسفك النميري دماء السودانيين ليقمع ما حدث ضد حكمه من انتفاضات.
ويكتب عبقري الادب في السودان المرحوم الطيب صالح توصيفا لحالة السودان في عهد النميري وما فعله هذا الحاكم بالسودان من تخريب قائلا quot;كأنه ثور هائج يدخل دكانا من الخزف quot; كوصف دقيق لما فعله نظام النميرى بالسودان، وانتهت اللغة الكاذبة التي تدعى الوطنية والمزايدة على الشرفاء الى الوضع المزري للسياسة السودانية الخارجية بان يصبح النميري نفسه،سمسارا لاسرائيل يسعى لتهريب عناصر الفلاشا من الحبشة الى اسرائيل مقابل بعض العمولات
واسوق المثل السوداني باعتباره صالحا للقياس والمقارنة مع ما جاء معه وقبله وبعده من انظمة انقلابية هجينة، هي التي نعاني من تداعيتها وتبعات اجرامها في ارجاء كثيرة من الوطن العربي. وكما انتهى في السودان السياسيون المؤهلون لقيادة المجتمع والدولة وتم قطع الفرصة على تربية اجيال جديدة، انتهى ايضا في سوريا اولئك السياسيون الذين بهروا العالم بادائهم بعد ان صار الضباط الصغار يتقافزون على السلطة وقد ازاحوا اناسا كان يمشى خلفهم الشعب وينتخبم للبرلمان والمناصب العليا امثال فارس الخوري وهو رجل مسيحي كان الشارع المسلم يرفعه على لاعناق، لان السلام الاجتماعي والتفاهم الديني يذوب وينصهر في عمق الولاء الوطني كما كان الشارع الاسلامي المصري يرفع فوق الاعناق مكرم عبيد الزعيم الوفدي المسيحي، كما انتهى رجال كبار في سوريا مثل شكرى القوتلي وجميل مردم وغيرهما من رجال الوطنية والامانة والشرف وجاء هؤلاء الضباط الذين افتكوا الحكم وصاروا يحمون انفسهم باجهزة القمع ويتحالفون مع اللصوص وينشئون شبكات النهب والسلب لترواث المجتمع ونسمع عن خلافات حول مليارات كالتي نشأت داخل اسرة الاسد عندما ترك السيد رفعت الاسد سوريا ليقيم امبراطورية مالية في باريس ولندن، ويعرف الناس ان الاصل المتواضع لاسرته في قرية قرداحة والراتب الذي كان يتقاضاه من الجيش لا يمكن ان توصله الى مبلغ يتكون من خمسة ارقام لا عشرين رقما. واذا كان هذا قد استأثر بالمال دون الحكم فمن تبقى استأثر بالاثنين، الحكم والمال كما تقول الوثائق المنشورة في الانترنيت عن ثروات العائلة الحاكمة في بلد يعاني شظف العيش مثل سوريا وهو ما حدث طبعا على ايد ي النخبة الحاكمة في مصر، وبصورة اكثر رعبا في تونس وعائلة الرئيس وزوجته، وطبعا الحالة الليبية تبقى حالة غير مسبوقة في تاريخ تعامل الحاكم مع شعبه ربما على مدى التاريخ الانساني كله، لما تخلل هذه المسيرة من اجرام وقمع ولصوصية وانتهاك للاعراض والحرمات وقتل دون تمييز للبشر.
فعن اي بديل لهذه العصابات الحاكمة تتكلمون، انه كمن يأتي لانسان سقط في مستنقع تاكله الحشرات وتخنقه العفونة و يبحث عن الانقاذ ليساله قبل انقاذه ان يدله عن المكان الذي سيسكن فيه بعد ان يغادر المستنقع، فالاولية ايها السادة لانقاذ الناس من هذا المستنقع قبل ان يموتوا غارقين في عفونته وتحت دبيب حشراته، وليست الاولوية لهذه الاسئلة الغبية عن البديل، ولو تمثلت رد الشعوب على هذا السؤال البائس لما تصورتها تقول اكثر من رد واحد هو اعيدوني الى حياتي قبل عهود الانقلابات الدموية الاجرامية والى رجال الوطنية والسياسة فليعد اليمن الى احمد محمد النعمان ولتعد ليبيا الى بشير السعداوي ولتعد سوريا الى فارس الخوري ولتعد السودان الى اسماعيل الازهري ولتعد العراق الى عبد الرحمن البزاز ولتعد الجزائر الى الامير عبد القادر الجزائري ولتعد تونس الى فرحات حشاد ولتعد مصر الى رجال من نوع سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد ولتعد الاقطار العربية الى زعامات خرجت من قلب الشعب لان هذا هو الوضع الطبيعي والانقلابيون الاجراميون الدمويون مجرد استثناء.
[email protected]
www.ahmedfagih.com