لم يكن التحاق الرائد ركن عبد السلام احمد جلود بمعسكر ثورة 17 فبراير شيئا مفاجئا لمتتبعي الشان الليبي، لان انشقاقه عن معسكر العقيد بدا منذ النصف الاول من عقد التسعينيات، ويشهد الذين يعرفونه وكانوا يختلطون به، انه كان عالي الصوت والنبرة في انتقاداته للنظام والمجاهرة بالاختلافات الجوهرية بينه وبين رفيقه القديم، ثم خفت صوته بعد ان سمعنا انه تلقى تهديدات صريحة بان هذه الانتقادات سوف تجلب له المشاكل، بل كان مهددا في احدى مراحل حياته بالسجن او التصفية، وتم تثبيت العلاقة بينه وبين من يسمونه القائد، على ان يمارس الرائد جلود حياته كمواطن عادي، ضامنا سلامته وحقه في الخروج من ليبيا والدخول اليها، والعلاج في اي بلد يشاء على حساب الدولة، مقابل الا يثير المشاكل والا يواصل انتقاداته التي كان يجاهر بها في اللقاءات العامة، عند حضوره للمآثم والاعراس في طرابلس، ويعرف الجميع ان عبد السلام احمد جلود ظل هو الرجل الثاني في النظام منذ استلاء المجموعة العسكرية على السلطة عام 69 ولما يقرب من ربع قرن، ورغم ما يبدو من انسجام في الظاهر بينه وبين القذافي، الا ان الرجل الاول كان دائما يحاول قطع الفرصة على الرجل الثاني، لكي لا يراه الاخرون بديلا له، عند سقوطه، فكان ينسب اليه اي تشدد في المواقف السياسية الليبية، وكان يقدمه للاتحاد السوفيتي باعتباره صاحب ميول امريكية، ويصوره لدى الامريكان باعتباره صاحب ميول اشتراكية سوفيتيه، ويقدمه للمصريين باعتباره كارها لهم، وللاسرائليين باعتباره القائد لتيار التشدد، ويرسل عنه مختلف الرسائل التي تجعله اسلاميا متشددا اويساريا متطرفا او ليبراليا متهتكا، الى اخره، ثم بدات تظهر الخلافات بينه وبين رئيس النظام حول الطريقة التي تدار بها البلاد، فقد ظهرت خلال عقد الثمانينيات كثير من التازمات التي افتعلها النظام وتضييق الخناق على الناس وصولا الى تخفيض قيمة الدينار دون رفع الاجور والمرتبات وبدا صوته يرتفع من فوق المنابر الرسمية للدولة ضد سلوكيات اللجان الثورية وضد زيارة القدس التي رتبها القذافي لبعص العناصر الامنية بدريعة الحج الى القدس، وامتنع جلود عن القيام بمهامه منسحبا الى استراحة يملكها في المصيف البلدي تعبيرا عن احتجاجه، وقام العقيد القذافي بزيارته في تلك الاستراحة مطالبا اياه ان يعود ليباشر الاصلاحات التي يريدها، واتفق معه على تشكيل لجان من خبراء ليبييين لوضع خطة الاصلاح وعندما اكتملت هذه الخطة وقدمها للقذافي لاقرارها وعرضها على ما يسمي المؤتمرات الشعبية، وجد شيئا من الممانعة والتردد في اقرارها فعاد الرائد جلود الى اعضاء هذه اللجان واخبرهم بان هذه هي نهاية علاقته بالنظام لانه اكتشف انه لا تتوفر اية نية للاصلاح من جانب العقيد وهو لا يريد ان تكون له اية مسئولية عما يحدث من خراب للبلاد وتجريف لمؤسساته وموارده ودمار لكل الاسس والاهداف والمباديء التي تبني على اساساسها الاوطان والمجتمعات، ويبدو كما جاء في حديث الدكتور محمود جبريل انه حاول لعدة مرات مغادرة البلاد، احدى هذه المرات تمت بعون ومساعدة من احدى دول التحالف الدولي وربما هذا يشير الى رغبة دول التحالف في وجود عناصر تنتمي للنظام القديم تساعد في ملء الفراغ الذي يحدث عادة عقب انهيار الانظمة الديكتاتورية من نوع النظام الليبي وتفادي الكوارث التي حصلت في العراق بعد سقوط نظام صدام، وقد عبر اهل التحالف عن رغبتهم في وجود عناصر من داخل النظام تقوم بهذا الدور، الى حد ان هناك من حاول تسويق رئيس المخابرات المسمى موسى كوسه للعب مثل هذا الدور وهو ما اثار غضب واشمئزاز عناصر الثورة لانه لم يكن ممكنا ان يتركوا رجلا والغا في دم الشعب الليبي وصاحب سجل اسود في القتل والتصفية ان يكون له اي دور خارج دور المجرم المطلوب للقصاص من الشعب الثائر، ولهذا فان وجود رجل قيادي من رجال النظام ينتمي تحت لواء الثوار سيكون امرا مطلوبا بل اعتبره هدية من السماء لتحقيق هذه الوصلة الضرورية او هذا الجسر الذي يربط بين عهدين، وكان اول الملتحقين من مجلس القيادة القديم هو الرائد عبد المنعم الهوني الذي اظهر منذ فترة مبكرة من عمر النظام اعتراضه على سلوكيات القذافي واختلافه مع النهج الانفرادي في القيادة الذي سار عليه، رغم انه كان احد الذين استلموا اهم المسئوليات فقد كان رئيسا لجهاز المخابرات الذي تسمى باسمه quot; مكتب الرائد عبد المنعم quot; وكان وزيرا للداخلية، وترك منصبه وهو يقوم بمهمة وزير الخارجية، ولم يعد ابدا بعد ذلك لاحضان النظام، رغم انه في السنوات الاخيرة، وبوساطة من مصر التي اقام لاجئا سياسيا بها، ارتضى باجراء مصالحة مع قائد النظام والقيام بدور رمزي كممثل لبلاده في جامعة الدول العربية، الا انه منذ اول يوم لثورة 17 فبراير اعلن انشقاق المندوبية ورفع علم الاستقلال وانخرط في العمل لصالح الثورة، ممثلا للمجلس الانتقالي في مصر، ووجوده داخل صفوف الثوار، يؤهله هو الاخر للقيام مع زميله عبد السلام جلود بهذا الدور الضروري لتامين الانتقال من عهد قديم الى مشارف العهد الجديد رغم تصريحه اكثر من مرة انه لا ينوي القيام باي عمل فور سقوط النظام، الا انها مهمة مؤقتة لا اعتقد انه سيتاخر في ادائها اذا اقضت المصلحة الوطنية ذلك.
اقول هذا الكلام وانا على وعي تماما بالدعاوى الثورية والاصوات الجهيرة التي تطالب بالقطيعة مع النظام القديم الذي يمثل فصلا من اكثر الفصول بشاعة وقسوة والما في التاريخ الليبي، وان هذا الشعب الذي تجرع الويلات على يد نظام القذافي وازلامه وجلاوزته لا يريد احدا يذكره بهذا النظام او تكون له اية علاقة بعهده الجديد، وهذا كلام له دوافعه المفهومه، ولكن حقائق الواقع وتجارب الشعوب وتجنيب شعبنا الكوارث والويلات التي رايناها تحدث في بلدان اخرى، تقتضي في مثل هذه الاوقات استخدام العقل باقصى طريقة ممكنة وكبح جماح العواطف الجياشة، ويجب ان نعلم ان سقوط الانظمة التي تشبه النظام الليبي هو زلزال تعقبه توابع وقد حدث الان الزلزال الذي اخذ ارواح عشرات الالاف من الشهداء وترك خلفه عشرات الالاف من الارامل والتكالي والايتام والمعاقين، ولكن ما يجب ان نتداركه ونمنع وقوعه هو سقوط ضحايا لتوابع الزلزال مستقبلا، وذلك بتامين الانتقال السليم الى ليبيا الجديدة، واعتقد ان وجود مجموعة من عناصر النظام التي انضمت الى صفوف الثورة ممن كانوا يحتلون مواقع قيادية بمن فيهم الشيخ مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الذي كان وزيرا للعدل، والاستاذ عبد الرحمن شلقم الذي كان وزيرا للخارجية والاستاذ العيساوي الذي كان وزيرا للاقتصاد دون ان ننسى الدور الكبير في انجاح الثورة للشهيد عبد الفتاح يونس الذي كان وزيرا للداخلية، وبوجود اثنين من قيادة النظام القديم هما السيد عبد المنعم الهوني والسيد عبد السلام احمد جلود، سيكون قد توفر للثورة العناصر اللازمة للقيام بدور الجسر بين العهدين، ولم يعد اهل الثورة يحتاجون لاي عنصر اخر من العناصر القيادية التي كانت دول التحالف تطالب بوجودها لتامين هذا الانتقال، وقد تناولت اجهزة الاعلام فيما سبق اسم قيادي في النظام الانقلابي مثل رئيس اركان الجيش السيد ابوبكر يونس ولكنه للاسف الشديد ظهر اكثر من مرة خلال الثورة يحرض العساكر على مهاجمة الثوار ويتحدث عن قائد النظام باعتباره خطا احمر فخيب امال الناس الذين رشحوه لمثل هذه المهمة، وظهر الان السيد جلود ليغطي هذا الفراغ ويكون مع زميله الهوني عونا لهذه الثورة على اجتياز العتبات الاولى نحو عهد جديد وعصر جديد وغد افضل للشعب الليبي الذي انجز احدى اعظم الثورات التي عرفها التاريخ الحديث وقام بمنازلة اشرس وابشع واقبح الانظمة التي عرفتها الانسانية منذ فجر الحضارة.
نعم، يجب ان يقتنع الثوار الذي فجروا هذه الثورة، ثورة 17 فبراير، بان هناك دورا لهؤلاء الشرفاء من ابناء ليبيا الذين كانت لهم مواقع قديمة في عهد ساهموا هم ايضا في تقويضه وانهياره وازالته بعد ان ظهرت عيوبه وكوارثه، وهو دور لا يجب ان يتجاوز السنوات الانتقالية الاولي التي يكون فيها العهد الجديد قد تاسس وحقق لنفسه الامن والامان وبدا في الانطلاق عبر الطريق الجديد الذي اختاره الشعب طريق الحرية والديمقراطية والنهوض وكرامة المواطن وسعادته.

[email protected]