رغم التطور المهول في شتى نواحي الحياة العلمية والصناعية والزراعية والعسكرية والى حد ما الاجتماعية، فقد راوحت كثير من الدول والمجتمعات في مكانها تتمتع بما ورثته من عادات وتقاليد وأعراف، وبالذات في نظام المشيخة القبلية أو الإمارة التي استوطنت في سلوك الكثير من الأشخاص والمنظمات وحتى التشكيلات الحكومية، وفي أنظمة الحكم السائدة في كثير من مناطق العالم المصابة بالترهل وبالذات تلك التي اصطلح على تسميتها بالعالم الثالث وأحيانا الدول النامية أو على تسمية الدارجة هنا في العراق الدول النائمة!؟
فقد نقلت معظم تلك الدول نظام العشيرة وهيكلها وما يكتنفه من علاقات وسمات إلى نظام الحكم، حتى غدت معظم مؤسسات الدولة من الوزارات نزولا إلى الدوائر الصغيرة تمثل نظاما عشائريا يقف على رأسه الوزير الشيخ أو المدير العام الشيخ، وقس هكذا أيضا فيما يتعلق بالجنرالات صعودا ونزولا، حتى يظن المرء انه في سيرك أو كرنفال عشائري في التنافس والتباهي في العزائم والمركوبات على أنواعها وما يلحقها من طواقم الحمايات، الذين يمثلون أقرباء الدرجة الأولى والذين يصنفون بأنهم الحكام الحقيقيون، وهم يقفون وراء معظم نشاطات وديناميكيات السيد المسؤول الشيخ، وزيرا كان أم مديرا عاما، أو جنرالا وبالذات ما يطلق عليهم بـ ( البالات ) الذين انتشروا في البلاد بعد سقوط النظام واعتبار سنوات تركهم للخدمة ( فصلا او تقاعدا أو عقوبة ) لأجل الترفيع والمنصب، فإذ بملازم أو نقيب أصبح جنرال يحمل على أكتافه ما لذ وطاب من نجوم وتيجان وخيوط حمراء ونياشين!؟
وتكاثفت تحت هذه الثقافة البائسة مجاميع كبيرة من أقرباء الوزير أو الوكيل أو المدير العام في أي وزارة من وزارت الدولة ودوائرها، حتى تخال نفسك في مضيف شيخ العشيرة بكل ما تعنيه تلك الوضعية، حيث ينتشر أتباع الوزير أو المسؤول في كل أرجاء الوزارة ومؤسساتها كل حسب موقعه وواجبه المناط به من قبل الشيخ عفوا الوزير أو المدير العام، وفي كثير من الوزارات استبدل أو تم تجميل الشكل العشائري بالحزب أو الكتلة التي يمثلها الوزير المحترم أو دونه من المسؤولين الكبار، حتى يشعر المرء بأنه في مقر ذلك الحزب أو الكتلة التي تسخر الوزارة وما يلحقها بمشيئة تلك الحركة أو التجمع وكأن الدائرة مهما كانت ملكا مشاعا أو ورثا مملوكا بالطابو لهؤلاء؟
وإذا كانت سنوات الدكتاتورية قد أعادت البلاد الى البدائيات الأولى في العلاقات الاجتماعية ونظام القرية والبداوة، وصنعت لأجل ذلك دوائر متخصصة للعشائر، بل وصنفت الشيوخ إلى موديلات ودرجات، ولم تكتف بالشيوخ سواء الأصليين منهم أو التابعين ممن أطلق عليهم ( شيوخ التسعينات )، بل وصنعت أجيالا من رؤساء الأفخاذ والوجهاء ولكل منهم امتيازاته وموقعه، حتى أصبح الواحد منهم أفضل من أي عالم أو أستاذ جامعي أو جنرال في الجيش أو فنان لامع أو أديب أو كاتب كبير أو صحفي، فقد آن الأوان للانتقال من هذا النمط المتخلف في الحياة الذي دمر العباد والبلاد، والعمل الجاد من اجل تطوير النظم الاجتماعية السائدة بتحديث مناهج التربية والتعليم، وإبعاد أي عناوين غير دستورية في مفاصل المجتمع عن نشاطات الدولة ومؤسساتها، والفصل الكلي بين الدولة والدين والنظم القبلية، وتشريع جملة من القوانين التي تحرم التنظيم على أسس عنصرية أو دينية أو مذهبية وتقلص التكثيف الأسري والعشائري في مؤسسات الدولة بما يقنع المواطن بأنه فعلا ينتمي إلى دولة محترمة ووطن محبوب، لا إلى عشيرة أو حزب أو قرية مقزمة أو مختصرة كما كانت تفعل الأنظمة الدكتاتورية بشخص رؤسائها وعشائرهم وقراهم.
التعليقات