لتكن *بداية الفكرة هي مدخلنا، كي نعرف أن القصة برمّتها كانت وليدة الصدفة. فالذي حدث هو أنّ وزير الثقافة الفلسطيني في حينه، الدكتور عطا الله أبو السبح، حضر اجتماعاً لوزراء الثقافة العرب في العاصمة العمانية مسقط. وفي هذا الاجتماع اعتذر وزير الثقافة العراقي عن قبول أن تكون بغداد عاصمة الثقافة العربية في عام 2009 ، نظراً لحراجة الوضع الأمني هناك. فما كان من وزير ثقافتنا إلا أن تكلّم مطالباً بأن نملأ نحن الدور الشاغر، وتكون quot;القدس عاصمة للثقافة العربيةquot; بدل بغداد. طبعاً وافق كل المجتمعين على هذا الاقتراح. وربما تحمّسوا له. فهي القدس بمحمولاتها الرمزية والدينية والسياسية. حين رجع الوزير تكلّم مع موظفيه عن هذا، وكنت واحداً منهم. فاستغربت من الوهلة الأولى. القدس؟ كيف؟ وكلنا يعلم ما تعانيه المدينة من فصل عنصري وعزل أمني، غير مسبوقين في كل تاريخها. ما يجعل من المستحيل على ساكن رام الله أن يصلها فما بالك بساكن غزة؟
تكلّمت مع الوزير في هذه الشجون، ورأى هو في نهاية الحوار، أنّ الأسلم والأفضل، إقامة معظم الأنشطة الثقافية التي سترافق المناسبة، في العواصم العربية ذاتها، على أن تتحمّل هذه العواصم كل النفقات. ويرافق ذلك بالطبع نشاطات موازية داخل مدن الضفة والقطاع وحتى مدن المثلث والجليل والنقب إذا أمكن. هكذا كانت تصوراته في البداية. ولمّا جرى ما جرى من انقلاب وانقسام، طويت صفحة الموضوع. ثم عادت، وقد تغيّر شخص وزير الثقافة مرتين. والآن، نحن على الأبواب. ولدينا مشروعان بهذا الخصوص: مشروع وزير ثقافة رام الله، ومشروع وزير ثقافة غزة.
ولديّ معلومات مؤكدة أنّ حماس رصدت مليون دولار للموضوع، بالتعاون والتنسيق بين غزة ودمشق. كما أنهم في رام الله يشتغلون على أجندة عربية ووطنية أوسع، كون رام الله تحظى بالشرعية في نظر المحيط. حيث سيتم إصدار 400 كتاب، إضافة للمشاريع الأخرى بالطبع.
لكن المشكلة ليست هنا. المشكلة الكبرى أن القدس مغيبة ثقافياً، وبالذات بعد أوسلو. مغيبة أكثر مما كانت أيام الاحتلال. فأيام الاحتلال كان ثمة دور نشر على أراضيها، وكذلك صحف ومجلات، إضافة إلى مقر إتحاد الكُتاب بفعالياته المتعددة. بعد أوسلو انتقل كل ذلك إلى رام الله. وصارت السلطة تتعامل مع هذه المدينة كعاصمة سياسية وثقافية في آن. وهو ما لا يجوز بأي حال. فيكفي القدس ما تعانيه من حصار إسرائيلي صارم، حتى نأتي نحن ونتجاهلها.
لكل هذه الأسباب، أرجو بهذه المناسبة إحياء تلك المؤسسات من جديد. لو نجحنا في هدف نبيل كهذا، ستنجح الاحتفالية، وتكون حققت غايتها الأهمّ. أما أن ننشط خارج تراب القدس، في رام الله أو غزة أو دمشق أو طهران، فلن يجدينا ذلك كثيراً.
إن الجغرافية الثقافية لمدينة القدس تكاد لا تُذكر. مدينة فارغة تقريباً من كل نشاط ثقافي. وليس الاحتلال فقط هو السبب، بل تقصيرنا وعجزنا عن اتخاذ المبادرات الخلاقة.
إني أخشى أن تكون القدس هي الغائب الأكبر في هذه الاحتفالية التي تتخذ من المدينة المقدسة اسماً وعنواناً لها، كنوع من البُهْرج الإعلامي ( الذي يجري وراء ثقافة quot;اليافطاتquot;) دون عمل ثقافي حقيقي يُؤسِّس على الأرض. الأمر الذي يعني أنّ الاحتفالية ستعبر، لتبقى القدس على حالها القديم الجديد: حال الفراغ والأسى.
القدس عاصمة للثقافة العربية؟
لتكن القدس عاصمة للثقافة الفلسطينية أولاً!
* تنبيه من المحرر: هذه المقالة كتبها زميلنا باسم النبريص في منتصف ديسمبر عام 2008، وتأخر نشرها بسبب الحرب القذرة على غزة، إذ فضل أن ننشر آنذاك يومياته عما يحدث من مآس بسبب هذه الحرب. ننشرها الآن لأهمية ما تطرحه من تساؤلات حول هذا الاحتفال.