إنه في صلب الموضوع أن نشكر إيلاف حين نتحدث عن مؤتمر مدريد للحوار بين الأديان، باعتبارها الجريدة العربية الأولى التي امتلكت الجرأة- حين كانت بعض الأصوات تتلعثم بخجل- وشخصت الداء العربي والإسلامي، ووصفت الدواء. وجاهرت بعدائها للتمييز الديني، والتحريض على أتباع الديانات الأخرى.
وباعتبارها أول جريدة عربية فتحت الأبواب على مصاريعها لقول الحقيقة، وأوقدت مشاعل التنوير ضد الجهل والخرافة وسوء استخدام الدين وسوء تفسيره لتحقيق أغراض شخصية وسياسية، مما تسبب في صراعاتنا وتخلفنا، واضطهاد نساءنا، وأبعدنا عن الركب الحضاري والإنساني، وأشاع الفرقة والبغضاء فيما بيننا.
وباعتبارها أول جريدة عربية حاربت الإرهاب الديني والإكراه والإرهابيين، ونادت جهارا نهارا، بلا مواربة أو وجل، بالمساواة بين أبناء الوطن الواحد على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، فأسست بذلك لمثل هذا المؤتمر، وأبرزت الحاجة إليه.
التمييز الديني دعوة للكراهية والقتل والفتن. وشكل من أشكال الرق الذي قضت عليه إرادة الأمم الحرة. وهو كالتمييز العنصري والأثني، والتمييز ضد النساء، عناوين لمسمى واحد وحالة واحدة، هي الجهل والتخلف والانغلاق. وكما حارب الأحرار من شتى الثقافات والبلدان، العنصريةَ ودعاتها في جنوب أفريقيا، يحارب اليوم هؤلاء المتحضرون الأحرار التمييز الديني ودعاته في كل أنحاء العالم.
كان من المفروض أن يعقد هذا المؤتمر في مدينة شرقية لا في مدينة غربية. فالمشكلة في الشرق، لا في الغرب حيث يتساوى الجميع أمام القانون، وتُصان حقوقهم، وتُحترم خياراتهم. وحيث يمكن لعبدة الشجر والحجر والبقر والشمس والقمر أن يبنوا معابدهم، ويمارسوا شعائرهم الدينية بكل حرية، دون خوف أو وجل. بعكس الشرق الذي تستشري فيه ثقافة العداء والتكفير والازدراء والتضييق على أتباع الديانات الأخرى في بناء معابدهم أو إظهار شعائرهم. والذي يقرر سادته الدينيون والسياسيون، الديانات المسموحة والديانات الممنوعة، ويشرّعون لقراراتهم تلك القوانين.
لم يحظَ المؤتمر بالتغطية الإعلامية التي تتناسب مع أهميته، وأكثر الأصوات التي أيدته كانت خافتة وخجولة. وقد تجاهله عدد من الفضائيات والصحف والإذاعات، كما تجاهله عدد من الشخصيات الدينية المعروفة، والمجموعات التي تدعو للفرقة والحقد والبغضاء. وكان الخبر الثالث أو الثاني في أحسن الأحوال، في نشرات أخبار المحطات الإعلامية المؤيدة له.
تأتي أهمية مؤتمر الحوار بين الأديان الذي انعقد منتصف هذا الشهر في مدريد، من أنه المؤتمر الأول الذي انعقد على أسس جديدة تدعو إلى قبول الآخر والتصالح معه لإنهاء حالات الصراع والعداء الديني، والالتفات إلى المشكلات البيئية والإنسانية التي تواجه البشرية. بخلاف تلك الأسس التي انعقدت عليها المؤتمرات السابقة التي أفشلتها الخطابات والسجالات التي تتلاطم لإظهار أفضلية هذا الدين عن ذاك، وتتحاذق للبرهان على أن هذا الدين دين الباطل، وذاك الدين دين الحق. أي كما قال الشاعر أبو العلاء المعري: (كلٌ يعظم دينهُ... يا ليتَ شعري ما الصحيح؟).
كما تأتي أهمية هذا المؤتمر أن الدولة المنظمة والراعية له هي السعودية التي تعتنق المذهب الوهابي المتشدد في علاقاته مع أتباع الديانات الأخرى التي يصفها بالأديان الباطلة. والذي يقسم العالم إلى دارين دار للحرب ودار للسلم، ويقسم البشر إلى قسمين قسم مؤمن، وقسم كافر تتوجب محاربته والجهاد ضده. وهذا ما يفسر لنا عدم انعقاد المؤتمر في السعودية حيث بعض الأصوات النشاز التي تعارض المؤتمر وتخشاه، تنفث السم ولا ترتوي إلا بالدم.
إن كون السعودية هي الدولة الراعية والمنظمة للمؤتمر يبشر بفتح صفحة جديدة. ويعني أن فكرا جديدا وفهما جديدا نحو الآخر وكيفية التعاطي معه قد تشكل، أو بدء في التشكل. خاصة وإن العالم قد أصبح قرية صغيرة مجبرين سكانها على التواصل والتعاون نظرا لحاجة كل فرد فيها للآخر، لدرء المخاطر التي تتهدد البشرية من حرب وجوع وتلوث.
إن من الضروري أن لا ينظر بعض المتشائمين إلى المؤتمر على أنه نوع من التصدير الإعلامي لذر الرماد في عيون الغربيين وجماعات حقوق الإنسان. كما أنه من الضروري أن تتبع هذا المؤتمر خطوات على الأرض تعزز وتؤكد توجهاته إن كان على المستوى الوظيفي، أو على مستوى التربية والتعليم، أو على مستوى التشريع. فلا يكفي احترام الديانات السماوية والثقافات الوضعية، بل يجب احترام أتباع هذه الديانات والثقافات، واحترام خياراتهم، وصياغة القوانين التي تكفل حمايتهم وعدم التمييز ضدهم، وتضمن حقوقهم في بناء معابدهم، وممارسة شعائرهم الدينية علنا في كل الأصقاع العربية والإسلامية.
[email protected]