فلاح عراقي قرب نهر يعاني جفافًا

يجبر الجفاف الذي أصاب بعض المناطق العراقية، سكان المنطقة والفلاحين على مغادرة أراضيهم الزراعية والانتقال الى المدن لايجاد فرص عمل مناسبة تؤمن لهم لقمة عيشهم بعد أن تعذر عليهم زراعة أراضيهم بسبب عدم توفر المياه.


بغداد: يفكر محمد الشامي مرارًا بهجرة أرضه الواقعة جنوبي مدينة بابل (100 كم جنوبي بغداد) بعد أن ضرب الجفاف المنطقة واصبحت الزراعة متعذرة في ظل جفاف الأنهر المتفرعة من شط الحلة.
وعلى الرغم من أن الشامي يتمنى لو أن الظروف تتيح له الانتقال الى أرض أخرى تتوفر فيها المياه، الا أن ذلك حلم بعيد المنال، وليس من حل من وجهة نظره سوى الانتقال الى المدينة وهو الخيار الذي يلجأ اليه مئات الفلاحين الذين اصاب ارضهم الجفاف واضطروا الى الهجرة بحثًا عن العمل .

من فلاح الى بائع خضار

ولا ينتظر الشامي في مركز المدينة سوى العملفي بيع الخضروات والفاكهة على الرصيف، أو أعمال السخرة المختلفة، بسبب عدم إجادته لأي عمل آخر .
ويخسر العراق يوميًا جهود العشرات من الفلاحين الذين يهجرون قراهم ويتحولون من منتجين الى مستهلكين .
ولأن الجفاف يضرب مساحات كبيرة من أراضي العراق، فذلك يدفع كثيرين الى الهجرة مع انخفاض مناسيب نهري دجلة والفرات الى درجة يتعذر معها الريّ .

ويؤشر الشامي بإصبعه الى مساحات كبيرة من حوله، تحولت الى أرضٍ صحراوية، مؤكدًا أن أهالي نحو 50 بيتًا كانوا يسكنون هذا المكان، اما الان فلم يبقَ الا 20 بيتًا يفكر بعضهم في الهجرة ايضًا.
لكن الهجرة الى المدينة لرجل مثل الشامي لا يجيد سوى الزراعة، تمثل مشروعًا صعبًا، وبالنسبة له حالة اضطرارية دفعته اليها الظروف.
ويتابع الشامي: اذا ما هاجرت الى المدينة سأموت لأنني لا استطيع ترك أرضي، لكن اولادي يستعجلون الهجرة على أمل أن تتوفر لهم هناك فرص عمل .

ويأمل الشامي في أن توفر له الهجرة عيشًا كريمًا، فهو لا يمتلك بيتًا هناك وسيضطر الى العيش على الهامش في أطراف المدينة بحسب الباحث الاجتماعي سمير صاحب، الذي يؤكد أن الكثيرين من الذين هاجروا الى المدينة يعيشون في تجمعات تنقصها الخدمات ولا تتوفر فيها المياه الصالحة للشرب والكهرباء .
لكن الفرق الوحيد بالنسبة الى الشامي هو أن الهجرة ربما تتيح له الحصول على لقمة العيش عبر ايجاد عمل .

افتراش الرصيف

وكما الكثير من المزارعين الذين تركوا ارضهم، لم يجد ابو محمد الفلاح المهاجر الى المدينة عملاً سوى افتراش الرصيف، حيث يبيع الخضروات والطماطم والخيار وهي بضائع مستوردة من خارج العراق .
كما تحول فلاحون في المدن من منتجين الى بائعين للخضار والمحاصيل الزراعية. وتشير جولة سريعة في مدن العراق الى أن أعداد الفلاحات والفلاحين الذين يفترشون الأرصفة لبيع الثمار والخضار، تزداد باضطراد بسبب عدم توفر فرص عمل أخرى لهم .

ويرى المهندس الزراعي فوزي تركي، أن الهجرة الى المدينة حولت الفلاح من منتج للسلع الأساسية الى مستهلك لها، ولم يعد مساهمًا اساسيًا في سلة الغذاء بل هو مستهلك لها حولته الهجرة الى عامل من دون امتيازات مادية واعتبارية كان يحصل عليها بصفته فلاحًا .
وعلى امتداد الطريق بين الحلة والديوانية (193 كلم جنوبي بغداد)، تحولت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الى أراضٍ جرداء بسبب الجفاف.

ويؤكد لطيف العوادي من منطقة القاسم شرقي محافظة بابل، أن الهجرة الى المدينة بالنسبة لكثيرين حل اضطراري فرضته الظروف الصعبة التي سببت في العزوف عن الزراعة وتربية المواشي.
وبسبب التغيّرات المناخية التي تجتاح المنطقة اضافة الى انخفاض مناسيب نهري دجلة والفرات، فإن الكثير من مشاريع الريّ التي اقامتها الدول والقطاع الخاص طيلة عقود لم تسفر عن نتيجة .

فلاح يبيع السكائر

ويخمن سعد حسن، مهندس زراعي، أن حوالي نصف سكان المدن الصغيرة في العراق هم من الفلاحين الذين تركوا اراضيهم الزراعية. وهذه النسبة تزداد لأن العراق يمر بفترة جفاف لم يمر بها منذ نحو خمسة عقود على أقل تقدير .
إلا أن الكثير من الفلاحين في العراق، لم يستسلموا للجفاف وحاولوا الاستثمار في الزراعة عبر مشاريع سقي، فقد حفر محسن الكلابي آبارًا ارتوازية في مزرعته شمال النجف ( 160 كم جنوبي بغداد)، وزرع أرضه بالنخيل وانواع مختلفة من المحاصيل، لكن الأمر أثمر في النهاية عن خسارة كبيرة لأن المشروع لم يصمد أمام شح المياه.

يقول الكلابي: في ظل انحسار المياه فانك تحتاج الى جيش من العمال لإنجاح الزراعة، وفي ظل هكذا ظروف تصبح الزراعة غير ذات جدوى اقتصادية حتى لو نجحت الى حد معين.
وفي النهاية ترك الكلابي الزراعة وهاجر المدينة حيث افتتح حانوتًا صغيرًا لبيع السكائر والسلع.

خطورة الزحف الصحراوي

ويشير المهندس الزراعي كامل حسن الى أن نهري دجلة والفرات يمكن أن يساهما في اعادة توطين الفلاحين في الاراضي الزراعية اذا ما احسن استخدام المياه .
ويتابع: يحتاج العراق الى الاستثمار الأمثل لمياه النهرين عبر إقامة السدود والخزانات ومشاريع الري، بدلاً من ذهاب المياه مباشرة الى شط العرب من دون المرور على المساحة الأكبر من اراضي العراق، ومهما كان الانخفاض في مناسيب دجلة والفرات فانهما يبقيان وسيلتين مهمتين لإحياء الزراعة في العراق.

سائق شاحنة ينقل البضائع

وجهد الفلاح أمين حسين في زراعة أرضه رغم الظروف الصعبة، لكن مشكلته لم تكن مع الجفاف بل مع المحصول الذي لم يجد دعماً له، شأنه شأن المئات من الفلاحين الذين تفاجأوا بأن مردودات محاصيلهم لم تسدد الكلفة التي صرفوها على الزراعة طيلة الموسم .
وفي نهاية المطاف ، تحول حسين من مزارع الى سائق شاحنة ينقل البضائع بين المدن المختلفة .

لكن المشكلة بحسب الخبير الاقتصادي جعفر حسن، هي أن الهجرة الى المدينة ليست حلاً، بل هي مشكلة بحد ذاتها، فقد تزايد عدد العاطلين عن العمل في المدينة، وبسبب ذلك فإن أغلب الفلاحين المهاجرين لم ينجحوا في الحصول على فرصة عمل حقيقية، وظلوا يعيشون على اعمال السخرة أو من اعمال البناء بمدخول يومي محدود، ولجأ البعض الآخر الى افتراش الارض لبيع السلع والبضائع.

سائق أجرة

المزارع ابو أيمن الذي ترك أرضه وهاجر الى كربلاء (108 كم جنوب غربي بغداد) حيث استأجر بيتًا، اشترى لابنه الشاب سيارة أجرة توفر للعائلة لقمة العيش، أما هو فقد ظل عاطلاً عن العمل، ويشعر بالندم على تركه ارضه حيث يقول: على الرغم من الجفاف فإن الحالة افضل وأتمنى العودة الى أرضي.
وفي الوقت نفسه، حول المزارع حسين الجبوري مزرعته القريبة من المدينة الى دار سكنية ومحال تجارية في محاولة منه للقضاء على البطالة التي يعاني منها و اولاده الثلاثة.

تحويل الأرض الى مشروع صناعي

وتشهد أقضية ونواحي الرمادي (110 كم غربي بغداد) اتساع ظاهرة هجرة الفلاحين اليها بشكل ملفت للنظر، وبحسب رئيس اللجنة الزراعية في مجلس المحافظة فلاح الجميلي، فإن اسباب هجرة الفلاح الى المدن عديدة، لا ترجع الى انخفاض مناسيب المياه فقط، بل تعود الى ضعف اهتمام الدولة والدوائر الزراعية وتفشي الفساد الاداري والمالي في المشاريع المعدومة التي تخصص للجانب الزراعي لكنها لم تنفذ.

ودأب بعض الفلاحين الى ايجاد بديل للهجرة الى المدن وهو تحويل أرضه الى مناطق صناعية وسكنية أو تحويلها الى مشروع استثماري.
لكن الخبير الاقتصادي علي المؤمن، لا يرى من حل لأزمة الهجرة الى المدينة الا عبر دعم الفلاح والإسراع في توصيل الكهرباء وتبليط الطرق الريفية وتوفير مياه الشرب وتوفير الرعاية الصحية والعلاج المجاني، ودعم الفلاح ليكون قادرًا على منافسة المنتجات الزراعية الاجنبية .