قد يكون من الصعب أو غير المتعقل عملياً محاولة القيام بالقبض على ثورة أو حراك شعبي في طور التحول والتحرك لتقييمه واستكناه مضمونه، ومحاولة الخروج بعد ذلك بنتائج وتقييمات تحلل ما جرى وتأخذ العبرة للمستقبل، كما في حالة الانتفاضات والثورات والحراكات التي تعرفها المنطقة وامتد أثرها لاحقاً إلى داخل الكيان الإسرائيلي، ثم عبرت المحيط الأطلسي غرباً وصولاً إلى شوارع نيويورك مع حركة quot;احتلوا وول ستريتquot;.
بيد أن ضرورة القيام بعمل تحليلي يبني على تفكيك الأسس التي قامت عليها الثورات أو الحراكات العربية، والفروق التي تمظهرت في نزوع بعضها نحو خيارات لم تظهر في أماكن أخرى، يدفعنا إلى القيام بسبر هذه الانتفاضات أو الحراكات العربية، شئنا ذلك أم أبينا.
وما من شك أنه في ظل شحّ مصادر المعرفة والعلم بحال ما يجري على أرض الواقع، والتعتيم الذي تفرضه معظم الأنظمة العربية التي شهدت هذه الحراكات، فإن ذلك يسهم في جعل المهمة أكثر صعوبة، رغم ما حاولت توفيره وسائل الإعلام الحديثة من فضاءات للمعرفة لم تكن في الحسبان، إلى درجة نسبة البعض الفضل في معرفتنا ما يجري عن الثورات العربية إلى الفيسبوك وتويتر وغيرهما من وسائل الاتصال الحديثة.
ما يلفت الانتباه بداية حيال ما يجري في المشهد العربي فشل الثورات أو الانتفاضات العربية في التحول من ثورة سياسية تنشأ بها ومعها معظم الثورات تاريخياً إلى ثورة اجتماعية بمطالب وأهداف وغايات واضحة، الأمر الذي تجلى في الدول التي سقطت فيها الأنظمة، ثم تعثرت بعد ذلك أو نجحت في التجربة الديمقراطية، كمصر وتونس، أو التي ما تزال على طريق التغيير والتحول كاليمن وسوريا.
ولعل من أكثر العلامات الفارقة والجامعة بين جميع الثورات والحراكات العربية اتسامها بالعفوية في حراك جماهيرها، على الرغم مما يقال من تدخل غربي أو توجيه خارجي لأجندتها، فشعار (الشعب يريد إسقاط النظام) بمدلوله السلبي النافي لوجود السلطة السياسية، أو على الأقل، رأس هرمها، كما برز في مصر وتونس، سرعان ما تداعى مع احتواء جيشي البلدين لحراك الجماهير العفوي، فبدا وكأن الثورة في كل من تونس ومصر قد تم احتواءهما حتى قبل أن تبدآ فعلياً، فيما يبدو المشهد في كل من اليمن وسوريا أكثر تأزماً مع انقسام الجيش على نفسه في اليمن، وانحياز جلّه إلى جانب النظام في سوريا، على الرغم من وقوع بعض الانشقاقات الهامشية بطبيعتها.
ما يميز هذه الحراكات أيضاً اضطلاع الطبقة الوسطى في جميع بلدانها بالقيام بها وتراجع مكانة الطبقة السياسية في قيادة حراكات الشارع، وهو ما حدث في جميع البلدان تقريباً، وزاد المشهد السوري الصورة وضوحاً مع تركز الاحتجاجات في المدن ذات الصلة الوثيقة بريفها تاريخياً، كدرعا وحماة وإدلب. كما امتازت الثورات العربية بإسقاطها لمفهوم الدولة ndash;الأمة الذي عملت النخب السياسية والأنظمة الحاكمة على بنائه بعد الاستقلال، وبدا السعي للثورة على الأنظمة بمثابة الانقلاب على المفهوم الذي شد النخب السياسية خلال سنوات خلت، وهو ما يشير إلى فشل الأنظمة الحاكمة في تسويق هذا المفهوم، وعدم قدرة الدول ndash;الأمم على الإجابة على أسئلة المرحلة جماهيرياً، وعلى حجم الاستعارة التي مارستها الأنظمة في نقلها للنموذج من الخارج دون العمل على تأسيسه داخلياً.
وإذا كان ما تقدم يبرز كعلامات على الاتفاق ولو شكلياً بين معظم الثورات العربية، فإن دور الجيش في المرحلة الراهنة وحجمه بحسب كل بلد، يظل أحد أبرز علامات الافتراق الظاهرة. ففيما انحاز الجيش في كل من تونس ومصر إلى الشعب، وحمى الثورة والثوار مضحياً برأس الهرم لصالح الحفاظ على جسم النظام، وهو ما لم يتنبه له الثائرون (ربما إلى الآن)، لم يكن الجيش عاملاً حاسماً في كل من اليمن والبحرين وسوريا، وفيما نجح الجيش في ممارسة دور التحكم لا الحكم في كل من مصر والجزائر، وتونس في المرحلة التالية والقريبة، أسوة بالنموذج التركي الذي تخلى عن الحكم المباشر لصالح التحكم من وراء ستار بالنظام السياسي، لا يزال الجيش على مسيس الصلة بالواقع العملي دون أن يكون له صلة بالسياسة في الدول التي لم يلعب فيها دوراً غير الانحياز والوقوف إلى جانب الأنظمة الحاكمة.
ولعل جدل العلاقة بين الوطني والقومي في صياغة مواقف أي نظام سياسي قد أثبتت فشلها في الأزمة الراهنة، بدليل أنه لا الانحياز والانكفاء إلى الداخل ومشاكله، كما حدث فمع النظام في كل من تونس ومصر، أو الانخراط بشكل أكبر في قضايا الخارج والموقف منها، كما في سوريا واليمن، قد أنقذ الأنظمة من هجمة الشعوب عليها وغضبها المستعر، بل إن منظومات العمل العربي المشترك تم تدميرها أو تجييرها إلى حد كبير (الجامعة العربية) لصالح منظومة قيمية خاصة بشريحة من الدول العربية لا جميعها، حتى التي كانت تعد نفسها من دعاة العمل العربي المشترك.
ما بين عفوية الحراك الشعبي وquot;تآمرية الكونquot; على الأنظمة الحاكمة، تسير حراكات وانتفاضات الشعوب العربية على غير هدى دون أن نغفل أن حجم التدخل الخارجي في كل منها يختلف باختلاف الحالة وحجم الدور والمكانة التي كان يلعبها الخارج قبيل الأزمة نفسها، لكن ذلك لا يمنع من القول: إن الغرب إن كان يتآمر أو يتدخل فيما يجري حالياً، فإن هذا التدخل مدفوع بالحفاظ على مصالحه في المنطقة وعلى مبدأ (ركوب الموجة) بدلاً من مواجهتها، وهو أمر لا يمكن إنكاره، في النهاية، على دول وجدت أنظمة حليفة لها تنهار فجأة ودونما سابق إنذار، بعيداً عن النزعة المرضية في تغليب فكرة التآمر والمؤامرة في كل شيء، وحرمان الشعوب من حقها الطبيعي في نسبة الفضل الأول في التحرك على الأرض إليها.


كاتب وباحث
hichammunawar@gmail.com