حركة الأحداث في بر مصر المحروسة بعد 25 يناير، لا تشير إلي quot;الفوضىquot; التي تعقب الثورات الكبري، وإنما هي أقرب إلي المعني العربي المعروف بـquot;حيص بيصquot;، حيث الاختلاط والاضطراب والشدة التي لا مخرج منها ولا مهرب، فالبيص: الشدة والضيق, والحيص: الحيد عن الشيء. في تصوري أن السبب الرئيسي في هذا الحيص بيص : ان المصريين كانوا يعرفون جيدا ndash; قبل الثورة - ما الذي لا يريدونه، لكنهم لم يبحثوا أبدا ndash; او يسألوا أنفسهم - عن ما الذي يريدونه. فإسقاط النظام القديم ورموزه ورجاله ثم محاكمتهم كان ndash; ولايزال - هدفا مشروعا، لكن بناء نظام ديمقراطي ليبرالي دستوري جديد لا يسمح بظهور quot;مباركquot; آخر أو تكرار النظام الاستبدادي القديم، هو المحك الحقيقي لنجاح الثورة والأختبار الأصعب الذي لابد من اجتيازه.
ما يحدث الآن يذكرني بما عاشته مصر في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، في كثير من الوجوه، نفس الأفكار والرؤي والآليات والتحالفات والشعارات وربما الأشخاص، وكأن التاريخ لا يتحرك عندنا أو أصيب بالشلل التام أو كأن ثورة 25 يناير 2011 لم تكن أصلا. وعلي سبيل المثال وليس الحصر لم أنزعج ولو للحظة من تحالف أكبر حزب ليبرالي في مصر - تاريخيا - وهو quot; حزب الوفد quot; مع جماعة الأخوان المسلمين قبل أيام، ولم أستغرب عودة الجدل الصاخب في مصر حول quot;الدولة الدينيةquot; وquot;الدولة المدنيةquot;، فهو نفس الحديث المتكرر منذ قرنين تقريبا، بحيث أن من سيقرأ التاريخ في المستقبل القريب سيكتشف أننا أضعنا قرونا ثمينة (نجتر) نفس القضايا الزائفة و(نكرر) ذات العبارات الجوفاء.
ففي نهاية الثمانينيات من القرن الماضي صدر للدكتور لويس عوض كتاب بعنوان quot;ثورة الفكر في عصر النهضة الأوروبيةquot; ndash; لاحظ دلالة كلمة quot;الثورةquot; ndash; حين ثار الجدل بين المثقفين المصريين حول قضية‮ quot;‬الدولة الدينية‮quot; ‬في مصر‮‬،‮ ‬وسارع عوض إلي التعبير عن موقفه العلماني‮ quot;عملياً‮quot; ‬بتقديمه استقالته من حزب‮ quot;الوفد‮quot; ‬الذي تحالف وقتئذ مع جماعة الإخوان المسلمين في الإنتخابات البرلمانية عام‮ ‬1984، وكان التاريخ يعيد نفسه أو لم يبارح المكان‮.‬ أما من الناحية النظرية‮،‮ ‬فقد نشر سلسلة من المقالات في مجلة‮ quot;المصور‮quot;،‮ ‬عرض فيها قصة العلاقة بين الدين والدولة‮ ‬،‮ ‬كما عرفها العالم المسيحي الغربي في الانتقال من العصور الوسطي الي عصر النهضة الأوروبية الذي هو بمثابة القاعدة الاساسية للحضارة الحديثة في العالم الغربي‮.‬
الأهم من ذلك أنه تتبع فكرة ظهور التناقضات والصراعات في مختلف مجالات وأنشطة ذلك العصر‮،‮ ‬التي كانت تسيطر عليها الكنيسة سيطرة كاملة‮‬،‮ ‬ليخلص في النهاية الي أن الفكر الأوروبي لم يتحرر إلا بعد ان خلع عن نفسه نير الوصاية الدينية‮، جمع عوض هذه المجموعة من المقالات في كتابه quot;ثورة الفكرquot; ‬السالف الذكر،‮ ‬الذي صدر أولا عام‮ ‬1987‮ ‬عن مركز‮ quot;الأهرام‮quot; ‬للترجمة والنشر‮، ثم توالت طبعاته. السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق،‮ ‬هو‮: ‬لماذا يبحث العلمانيون والليبراليون عن حلول للمجتمع المصري في التاريخ الأوروبي سواء في عصر النهضة أو في عصر الثورة الفرنسية؟ وهل المطلوب ان نقيم نهضتنا علي أسس مماثلة لما حدث في أوروبا منذ القرن الخامس عشر؟ أو بالأحري‮: ‬هل لا بد لنا من‮ quot;‬نموذج‮quot; ‬نقلده أو نقتدي به حتي تنجح ثورتنا؟.
يؤمن العلمانيون والليبراليون بأن هناك عقلا انسانياً‮ ‬واحداً‮،‮ ‬وحضارة انسانية واحدة‮. ‬والنموذج الأكمل لهذه الحضارة الواحدة هو النموذج الغربي الذي تشكل من روافد حضارية مختلفة‮ - ‬مصرية ويونانية ورومانية وعربية واسلامية وشرقية‮ - ‬وان تكاملت وانصهرت ونضجت جميعا في عصرنا الراهن في هذه الحضارة الغربية‮‬،‮ ‬ولا سبيل لتقدمنا بغير الأخذ بأسباب هذه الحضارة‮.‬ ان هذه الحضارة ليست هي‮ - ‬الآخر‮ - ‬من حيث أنها حضارة‮ ،‮ ‬أي عقلانية وعلوم ومعارف ومناهج وهموم مشتركة وتطلع الي العدل والتقدم والسلام‮، وإنما ‬هي بعد من أبعاد‮ quot;الأنا‮quot;،‮ ‬إن لم تكن هي‮ quot;‬الأنا‮quot; ‬الضروري‮. ‬فـ‮quot;‬الأنا‮quot; ‬موجود في هذا‮ quot;‬الآخر‮quot; ‬الحضاري‮،‮ ‬واقعاً‮ ‬تاريخياً‮،‮ ‬وامكاناً‮ ‬وضرورة مستقبلية‮. ‬و‮quot;الآخر‮quot; ‬موجود في‮ quot;‬الأنا‮quot; ‬بما يضيفه الي عصرنا من علم وفكر وفن وتكنولوجيا وثقافة بشكل عام‮. ‬ومن ثم فلا تعارض بين‮ quot;الأنا‮quot; ‬و‮quot;‬الآخر‮quot; ‬من حيث جوهر الحضارة المعاصرة‮.
لكن يبدو أن حالة quot;الحيص بيصquot; التي وصلنا إليها تجرفنا بسرعة الضوء إلي العصور الوسطي quot;الدينيةquot; مجددا، وكأننا لا نقرأ التاريخ الإنساني ولا نتعلم دروسه أبدا، فأصبح محكوم علينا أن نعيد أحداثه ووقائعه مجددا، وكلما انتفضنا ودبت في عروقنا رياح الثورة، تكالبت علينا جراثيم المرض والهزال من كل صوب وحدب، لتشل قدرتنا علي التغيير ناهيك عن الرغبة فيه أصلا.


[email protected]