الشرق الاوسط في فوضى عارمة، حرب شبه أهلية في الصومال، حرب عشائرية مشتبكة في اليمن لم تخلو من هوية مذهبية في بعض فصولها، ودعوات انفصال الجنوب اليمني لها من يروج لها ويعمل لها في عمق الوجود اليمني، تجاذب طائفي في العراق، تحولات سياسية خطيرة في بنية المجتمع المصري، وتوقعات عن صراع ديني حزبي اديولجي يملا الساحة المصرية، بدايات حروب عشائرية وبوادر دعوات انفصال في ليبيا، سجال واضح بين الحكومة والشيعة في البحرين مختلط الهوية، بين العنف والسلام من جانب الطرفين، غموض في مصير ثورة تونس، سوريا تاريخ مجهول حتى وإنْ ادعى نظام الاسد اخماد (الحراك العسكري والقتالي المضاد)، لبنان شعب متوتر الاعصاب، مشدود الى الخوف، مُشرع على كل التوقعات بما فيها عودة حرب اهلية وإن محدودة، الحرب بين شمال السودان وجنوبه بعد الانفصال مرشحة للعودة، وإذا لم تكن هناك حرب فهناك شكوك متبادلة وصدمات ومؤامرات متناوبة بين الحكومتين، ومشكلة النفط الحدودي لا تنتهي، شيعة السعودية ليسوا على وئام واضح مع الحكومة، الكويت والعراق رغم الود الظاهري هناك اختلافات بالعمق، والتاريخ المأساوي للعلاقات بين الدولتين يغذي هذه المحنة، بل هناك علاقات متوترة بين كلا الشعبين بدرجة وأخرى، السجال الطائفي مهيمن على الشارع الشرق الاوسطي بدرجات متفاوتة هنا وهناك، تكريس مبدا أو قانون اللامركزية والحكم الذاتي في الأنظمة المتعددة الاديان والاعراق، تحولا ت هائلة في فكر الناس في الشرق الاوسط، وشيء مدهش هنا، حيث في جانب نجد الدعوة الى العشائرية وتكريسها نظريا وعمليا، فيما من جانب آخر دعوات حريصة وقوية الى تحكيم القيم الديمقراطية والحرية، وفي منتصف الطريق دعوات سلفية واسلا مية معتدلة، صراع خفي بين قوتين كبيربين في المنطقة، تركيا وإيران، ولكل منهما أجندته وآلياته في االعالم العربي والاسلامي، الصراع بين ذوي الدين الواحد والمذهب الواحد والتاريخ المشترك الواحد له مصاديقه أيضا في هذا الشرق الاوسطي.
في وسط هذه الفوضى العارمة تشخص مشكلة الصراع الايراني الامريكي في المنطقة، وتشخص أيضا احتمالات الضربة الاسرائيلية الوقائية للجمهورية الاسلامية، وتشخص أيضا ظاهرة انتشار سياسة الاجندة الخارجية، عالميا واقليميا، فايران لها اجندتها في هذا العالم، والسعودية لها أجندتها في هذا العالم، وتركيا لها أجندتها في هذا العالم، وهذه الاجندة تنفذ حربا بالوكالة، او صراعا بالوكالة، والمال السياسي أفسد الناس، وساهم في تفتيت الشعوب والامم، وادخلها في آتون الصراعات المذهبية والدينية والقومية، فيما تكمن وراء هذا كله أنظمة وحكومات وزعامات همها السلطة والقوة!
الصراع الدولي في الشرق الاوسط أصبح حقيقة مكشوفة للعيان والسمع واللمس في هذه المنطقة، ومن شواهدها الصارخة الموقف المتناقض من الازمة السورية بين أمريكا واوربا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، وعلى هامش الموقفين المتعارضين أو في سياقهما يتكرس الاختلاف الاقليمي حول ذات الازمة، وهناك كلام جدي او مبالغ فيه عن احتمالات حرب كونية في منطقة الشرق الاوسط.
هذه الفوضى افرزت نتائج كثيرة منها على سبيل المثال: _
1: أبرزت مكونات الشعوب بشكل واضح، قوي، فاعل، فلم يعد هناك مكون مخفي أو مغيَّب أو غائب، سواء كان دينيا أو قوميا أو مذهبيا، ومن هنا كان مصطلح الاقليات والاثنيات حاضرا في الخطاب السياسي الشرق الاوسطي بقوة كأشكالية حقوق ومصير بالدرجة الاولى.
2: اصبح الكلام عن تقرير المصير عاديا بل طبيعيا، ولم يعد هناك حرج في طرح مشروع تقرير المصير، وقد دخلت مسألة تقرير المصير ضمن آليات الصرا ع في كثير من الاحيان، وأخذت مديات واسعة من القراءة الحقوقية والسياسية، وهناك تصورات تذهب بان مستقبل الشرق الاوسط عبارة عن كيانات أو كانتونات مستندة إلى هويات دينية وعرقية ومذهبية.
3: شخَّصت الى حد كبير قدرات وحجوم وممكنات مكونات الشعوب والامم، كانت فوضى كاشفة بحق وحقيقة، وطالما تتسبب الفوضى السياسية بالكشف عن كثير من الاسرار والحقائق المخفية.
4: بدأت تنشيء لعلاقة بين اديلوجيات عابرة للحدود، أديولجيات مذهبية ودينية وقومية، الامر الذي قلَّص من هيمنة العلاقة الوطنية، فهناك تفاعل سني / سني، شيعي / شيعي، مسيحي / مسيحي، ليس داخل الوطن الواحد، بل على امتداد الجغرافية الشرق الاوسطية، ولذا، ليس غريبا أن يهتم الفاتيكان على سبيل المثال بموضوع مسيحي الشرق، ولا غريبا أن تتاسس منظمات مسيحية للبحث في مصير المسيحين في الشرق، على ذات المستوى نجد ذلك عند الشيعة والسنة.
5: ساهمت في ترسيخ دور الروحانيات، ليس إيمانا ربما با لروحانيات بقدر ما هو محاولة للتمترس وحماية الذات من الذوبان والضياع،أي تحولت الروحانيات الى آلية صراع أكثر من كونها مضمونا بنيويا يشيد الذات والمجتمع، بصرف النظر عن قيمة رجل الدين التي ربما تهاوت او تقلصت، فيجب الفصل بين الروحانيات ورجل الدين في هذه النقطة وعدم الخلط بينهما.
6: خلقت مجالا واسعا لتحالفات خارج مملكة أو خارج اسوار الوطن، تحالفات ليست سياسية بل تحالفات اقتصادية، ثقافية، دفاعية، لا تتخطى الحدود القريبة بل تتخطى حتى الحدود المتوسطة، وهذا انعكس على تصميم علا قات جديدة بين الدول الكبرى ودول الشرق الاوسط، حيث صار للطائفة والعشيرة دور في طبيعة الاستراتيجية التي ترسمها هذه الدول في التعامل مع عالم الشرق الاوسط!
7: تراجعَ بشكل واضح المد المديني، وتغلب المد العشيري، وليس سرا، أن مساحة كبيرة من العالم الشرق الاوسط خاضعة أو تحت توجيه ورسم الهوية العشائرية حتى على مستوى القضاء، بل هذا المستوى هو الظاهر والمهيمن.
ربما يناقش بعضهم بالقول إن هذه ليست افرا زات للفوضى بل هي سبب الفوضى، ولا اريد ان ادخل بنقاش بيزنطي في هذه النقطة بالذات، ويكفي أن أقول إنها حقائق متسيِّدة وحاضرة وشاخصة ومتحكمة، ومن هنا يهمني أن اطرح السؤال التالي:
فيما تدلل الاحداث والوقائع بان الفوضى مستمرة، وربما آخذة بالاشتداد، فما هو المصير الذي ينتظر (ناس) هذا الشرق المسكين؟
اللهم احفظ الناس يا رب!