يجمع المتابعون على الخشية من رد فعل quot;حزب اللهquot; في حال اعتمد فريق الإدعاء في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، على رواية مشابهة للتي نشرتها مجلة دير شبيغل، وعلى أن تطورا من هذا النوع يمكن أن يهدد السلم الأهلي ويخيّر اللبنانيين والعرب والمجتمع الدولي بين العدالة أو الاستقرار للبنان وشعبه.

بيروت: أراد المدعي العام للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان القاضي دانييل بيلمار وضع حد لموجة التسريبات الموجهة والتكهنات والتخمينات التي علت أخيرا، مركزة على استدعاء المحققين الدوليين عناصر من quot;حزب اللهquot; حدد بعض quot;المصادرquot; عددهم بستة بينما تحدثت تسريبات أخرى عن أن عددهم 11 وقد رفضت قيادة الحزب السماح بالتحقيق معهم، والمغزى أن هذا التطور إذا كان صحيحا يؤشر إلى توجه لاتهام quot;حزب اللهquot; أو أقله جهازه الأمني باغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري وتبني رواية مجلة quot;دير شبيغلquot; الألمانية لهذه الجريمة . لكن أكثر ما يثير الحيرة في هذا الشأن أن من بدأ بالتسريبات هو رجل مثير للجدل محسوب على الحزب وعلى القيادة السورية : الوزير السابق وئام وهاب.

أما سبب تصرف وهاب هذا فالأرجح أن يكون وقائيا، لإفهام من يلزم في الداخل والخارج أن توجها من هذا النوع ستكون له عواقب جسيمة ، من غير أن يتحمل الحزب تبعة هذه المواقف، فضلا عن ضرورة تهيئة الرأي العام المؤيد للحزب لاحتمال مواجهة مرحلة جديدة في حال توجيه اتهام إليه في القرار الظني ، على قاعدة أن إسرائيل وخلفها الولايات المتحدة تستخدم المحكمة للنيل من الحزب بعد فشل الحرب العسكرية ضده عام 2006 ، وتاليا إن لبلمار وجها آخر غير الذي ظهر به لدى إطلاق الضباط الأمنيين الأربعة والإشادة به وبنزاهة المحكمة الدولية خلافا للقضاء اللبناني. بما يجعل الوجه الآخر لبلمار مساويا في الجوهر لوجه رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس.

وكان مكتب بيلمار قد اصدر بيانا إثر quot;فورة التخميناتquot; عن عمله التي تداولتها صحف وأسندتها الى laquo;مصادر مجهولةraquo;، منها ما وصف بـ quot;المصادر المطلعةquot; وبـquot;مصادر مقربة من التحقيقquot;. واعتبر المكتب أن التخمينات في شأن quot;تقدم سير عمله وموعد إصدار قرار الاتهام أمر مؤسف وغير مجد لن يؤدي سوى الى تضليل الرأي العامquot;.

ومما جاء في البيان المنشور في موقع المحكمة الدولية على الإنترنت: quot;ينكر مكتب المدعي العام بشدة كل الادعاءات والتلميحات الزاعمة أنه يسرب المعلومات الى الإعلام عمدا، كما يصر ويشدد على أن سياسة التواصل الخارجي التي يتبعها المدعي العام هي سياسة منضبطة واعية تولي أهمية بالغة لنزاهة عمل مكتبه ولثقة الرأي العام، لغاية التوضيح، وليس تسريب المعلومات الى وسائل الإعلام عن السياسات التي يتبعها مكتب المدعي العام ولا المدعي العام شخصيا. لقد كانت إحدى أولويات المدعي العام منذ الافتتاح الرسمي للمحكمة في الاول من آذار ( مارس) 2009 وضع اطر مؤسسية متينة لحماية سرية التحقيقات ونزاهتها، وقد برز ذلك جليا في التقرير السنوي لرئيس المحكمة. ولا يناقش مكتب المدعي العام قضيته في وسائل الاعلام ولا عبرها كمبدأ عام. إذا اراد المكتب عرض اي معلومات على الرأي العام، يقوم بذلك بصورة علنية ورسميةquot;.
ولفت البيان الى ان المعلومات المنقولة عن لسان أي شخص غير المدعي العام او الناطقة الرسمية باسمه quot;ليست سوى مجرد تخمينات يجدر التعاطي معها على هذا الاساس، اذ ما من أحد غيرهما مخول التحدث باسم مكتب المدعي العامquot;. وشدد على quot;خطورة الابلاغ غير المصرح به لأي معلومات سرية حول عمل المدعي العام من قبل اي شخص مؤتمن عليها ويؤكد خضوع الشخص المعني للمساءلةquot;.

وكانت ارتفعت لهجة التنديد بما تسرب من معلومات صحيحة أو مدسوسة، وذلك على قاعدة ان quot;حزب اللهquot; فوق المساءلة وان اي اتهام له يعني ان القرار ناجم عن تدخل إسرائيلي في عمل المحكمة. في حين استمع المحققون الى الصحافيين ناشر جريدة quot;السفيرquot; طلال سلمان وشقيقه الكاتب في صحيفة quot;المستقبلquot; فيصل سلمان والصحافي في quot;السفيرquot; عماد مرمل.

وفي هذا الوقت أنهى فريق من المصورين التابعين للمحكمة الدولية الخاصة تصوير مسرح الجريمة وإجراء مسح ثلاثي الابعاد للمنطقة التي إغتيل فيها الحريري. وقيل ان هذه العملية ترمي الى تجسيد تمثيل الجريمة ميدانيا ما يشير الى ان القرار الظني اصبح قاب قوسين او ادنى من الصدور او ان كتابته شارفت على نهايتها.

ويجمع المتابعون على الخشية من رد فعل quot;حزب اللهquot; في حال اعتمد الإدعاء رواية مشابهة للتي نشرتها المجلة الألمانية، وعلى أن تطورا من هذا النوع يمكن أن يهدد السلم الأهلي في البلاد بقوة ويولّد أحقادا، بما يتيح إمكان تخيير اللبنانيين والعرب والمجتمع الدولي بين العدالة أو السلم والإستقرار للبنان وشعبه . أي أن الموضوع شديد الإلتهاب والحساسية وأي تعامل معه بخفة وتسرع وتغليب أهواء سيكون عملا بالغ الخطورة على لبنان وشعبه.
رواية quot;در شبيغلquot;

وفي ما يأتي أبرز ما ورد في التقرير الذي نشرته quot;درشبيغلquot; في 25 أيار/ مايو 2009 : quot; توصّلت المحكمة الدولية الخاصة للتحقيق في اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق quot;رفيق الحريريquot; إلى خلاصات جديدة مدهشةmdash; وقد فرضت السرّية على تلك الخلاصات. ووفقاً لمعلومات حصلت عليها quot;دير شبيغلquot;، فإن المحققين باتوا يعتقدون أن quot;حزب اللهquot; هو المسؤول عن اغتيال الحريري. (...) تتوفّر الآن بوادر تفيد أن التحقيق قد أعطى نتائج جديدة وخطرة. فقد علمت quot;دير شبيغلquot; من مصادر مقرّبة من المحكمة، وتحقّقت عبر دراسة وثائق داخلية، أن قضية الحريري ستأخذ الآن منحى مثيراً. فالتحقيقات المكثّفة في لبنان تشير جميعها إلى خلاصة جديدة: وهي أن الذين خطّطوا للهجوم الشيطاني ونفّذوه لم يكونوا السوريين بل القوات الخاصة التابعة لـquot;حزب اللهquot; (...) . ولكن، يبدو أن رئيس المحكمة، quot;بيلمارquot;، والقضاة الآخرين في المحكمة، يريدون إخفاء هذه المعلومة، التي اطّلعوا عليها منذ حوالى الشهر. فما الذي يخشاه القضاة ؟

حسب المعلومات المفصّلة التي سردها مصدر quot;دير شبيغلquot;، إن quot;كشفquot; القضية نجم عن مزيج من الموهبة البوليسية، على غرار روايات شرلوك هولمز، ومن استفادة المفتّشين من أحدث تكنولوجيات الإتصالات. فبفضل أشهر من العمل الدؤوب، توصّلت وحدة خاصة من قوى الأمن الداخلي اللبنانية، كان يرأسها الكابتن quot;وسام عيدquot;، إلى فرز أرقام الهواتف النقّالة التي يمكن أن تشير إلى المنطقة التي كانت تحيط بالحريري في الأيام التي سبقت اغتياله، وفي يوم الاغتيال بالذات. وأطلق المحققون اللبنانيون على مجموعة الهواتف النقّالة هذه تسمية quot;دائرة الجحيم الأولىquot;.

وفي مرحلة لاحقة، قام فريق quot;وسام عيدquot; بتحديد 8 أرقام هواتف نقّالة، كان قد تمّ شراؤها جميعاً في اليوم نفسه في مدينة طرابلس بشمال لبنان. وقد بدأ تشغيل تلك الهواتف قبل 6 أسابيع من عملية الإغتيال، واقتصر استخدامها على الإتصالات في ما بينها فقط- باستثناء حالة وحيدة- ثم توّقف استخدامها كلياً بعد الإغتيال. ويبدو أن تلك الهواتف كانت بين الأدوات التي استخدمها فريق القتلة لتنفيذ الهجوم الإرهابي على موكب الحريري.

ولكن، كانت ثمة quot;دائرة جحيم ثانيةquot;، هي عبارة عن شبكة من حوالى 20 هاتفا نقّالا تم تعيينها لأنها كانت، غالباً، بجوار الهواتف الثمانية الأولى. وحسب قوى الأمن الداخلي اللبنانية، فإن جميع الأرقام المعنية تعود إلى quot;الذراع العملياتيquot; لحزب الله، علماً أن الحزب المذكور هو ميليشيا لبنانية أقوى من الجيش النظامي. وفي حين يتصرف قسم من quot;حزب اللهquot; كتنظيم سياسي عادي، ويشارك في الإنتخابات الديمقراطية وله وزراء في الحكومة، فإن القسم الآخر يستخدم تكتيكات غير مستساغة مثل عمليات الخطف قرب الحدود الإسرائيلية، وعمليات إرهابية على غرار العمليات التي تعرّضت لها مرافق يهودية في أميركا الجنوبية في العامين 2002 و2004.

لقد تطابقت أماكن وجود حاملي مجموعتي الهواتف البيروتيتين مراراً ومراراً، بل وتم تعيين وجودهم قرب موقع الهجوم أحياناً. وسمحت علاقة عاطفية كان أحد الإرهابيين يقيمها للمفتّشين بتعيين هويّة أحد المشبوهين الرئيسين. فقد ارتكب هذا الإرهابي خطأً لا يصدّق حينما اتصل بصديقته من أحد الهواتف quot;الساخنةquot;. وقد اتصل بها مرّة واحدة فحسب، ولكن ذلك الإتصال الوحيد كان كافياً لتحديد هويّته. ويُعتقد أن إسمه هو quot;عبد المجيد غملوشquot;، من بلدة quot;رومينquot;، وأنه عضو في quot;حزب اللهquot; كان قد أتمّ دورة تدريب في إيران. كما تم التحقّق من أن quot;غملوشquot; هو الذي اشترى الهواتف النقّالة. وقد اختفى منذ تلك الحادثة، وقد لا يكون على قيد الحياة الآن.

الحماقة التي ارتكبها quot;غملوشquot; سمحت للمحققين بكشف الشخص الذي يعتقدون الآن أنه كان العقل المخطط للهجوم الإرهابي: quot;الحاج سليمquot;، 45 سنة، وهو من بلدة quot;النبطيةquot; التي تقع في جنوب لبنان. ويُعتَقَد أن quot;الحاج سليمquot; هو قائد الجناح quot;العسكريquot; لحزب الله وأنه يعيش في ضاحية بيروت الجنوبية. وتتبع quot;وحدة العمليات الخاصةquot; التي يقودها quot;الحاج سليمquot; للأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله (48 سنة) مباشرةً.

وكان عماد مغنية (...) يرأس تلك quot;الوحدةquot; حتى تاريخ إغتياله في دمشق في 12 فبراير 2008، ربما من جانب الإستخبارات الإسرائيلية. ومنذ ذلك التاريخ، تسلّم quot;الحاج سليمquot; واجبات سلفه الشهير، في حين أصبح إبن شقيقة عماد مغنية، المدعو quot;مصطفى بدر الدينquot;، نائباً له. ويرفع الرجلان تقاريرهما لرئيسهما فحسب، وكذلك للجنرال quot;قاسم سليمانيquot; في طهران. وقد ضرب الإيرانيون، وهم المموّلون الرئيسون للجناح العسكري لحزب الله، النفوذ السوري فيه.

وبقدر ما تعمّق المحققون اللبنانيون في القضية، بقدر ما باتت الصورة أكثر وضوحاً بالنسبة إليهم، حسب المصدر الذي تحدّثت معه quot;دير شبيغلquot;. ويبدو أنهم حدّدوا هوية عضو حزب الله الذي اشترى شاحنة quot;ميتسوبيشيquot; الصغيرة التي تم استخدامها في الهجوم. كما نجحوا في معرفة أصول المتفجرات التي استخدمها في الإغتيال، وهو أكثر من 1000 كيلوغرام من quot;تي إن تيquot;، وquot;سي 4quot;، والـquot;هكسوجينquot;.

إن المحقق اللبناني الرئيس والبطل الحقيقي لهذه الرواية لم يعِش ليشهد النجاحات التي حقّقتها التحقيقات قريباً. فقد قُتِل النقيب عيد (31 سنة) في هجوم إرهابي وقع في ضاحية quot;الحازميةquot; قرب بيروت في 25 يناير 2008. ويبدو أن المقصود من ذلك الهجوم، الذي قُتِلَ فيه 3 أشخاص آخرون، كان إبطاء التحقيقات. ومرة أخرى، توفّرت أدلة على أن وحدة الكوماندوس التابعة لحزب الله كانت متورّطة في الإغتيال الجديد، تماماً كما ثبت تورّطها في ما يزيد على 12 عملية إغتيال تعرّض لها لبنانيون بارزون خلال السنوات الأربع الماضية.

يبقى بلا جواب السؤال عن الدافع إلى الجريمة. كثيرون كانوا يملكون مصلحة في مقتل الحريري. فلماذا يكون حزب الله- أو من يدعمونه في إيران- هو الذي يتحمّل مسؤولية الإغتيال؟

لقد كانت شعبية الحريري المتزايدة شوكة في خاصرة حسن نصرالله. ففي العام 2005، بدأ البليونير (الحريري) بالتفوّق على الزعيم الثوري لجهة شعبيته. وعدا ذلك، فإنه كان يمثّل كل ما يحقد عليه نصرالله المتعصّب والمتقشّف: العلاقات الوثيقة مع الغرب، والمركز المرموق بين الزعماء العرب المعتدلين، ونمط حياة باذخاً، والإنتماء إلى المذهب quot;السنّيquot;. أي أن الحريري كان، بمعنى من المعاني، بديلاً لنصرالله.

إن من المشكوك فيه أن يكون الوضع في لبنان قد سار في المنحى الذي يبدو أن نصرالله قد تصوّره. فمباشرة بعد الهجوم الإرهابي الذي أدى إلى مقتل الحريري، اجتاحت البلاد موجة تعاطف مع السياسي المقتول. وأدت quot;ثورة الأرزquot; إلى تشكيل حكومة مؤيدة للغرب، وبرز إبن الحريري كأهم زعيم حزبي وكأقوى شخصية مؤثرة في البلاد. إن سعد الحريري (39 سنة) كان يمكن أن يصبح رئيساً للحكومة منذ مدة طويلة- لو كان راغباً في تحمّل المخاطر ولو كان يشعر أنه مؤهل بما فيه الكفاية لتولّي المنصب. وبعد اغتيال رفيق الحريري، انسحبت قوات الإحتلال السورية من لبنان إستجابة للضغوط الدولية والمحلية. (...) الأرجح أن كشف المعلومات الجديدة حول عملية اغتيال الحريري قد يؤذي حزب الله. إن قسماً كبيراً من اللبنانيين قد سئم النزاعات الداخلية وهو يتوق إلى المصالحة. والأرجح أن زعيم حزب الله الذي يظل على قائمة المنظمات الإرهابية في الولايات المتحدة رغم اعترافه بقواعد اللعبة الديمقراطية، يتوقّع المشكلات الجديدة التي سيواجهها مع المحكمة الدولية. ففي خطاب ألقاه في بيروت، تحدّث نصرالله عن quot;النوايا التآمريةquot; للمحكمة الدولية.

لكن كشف المعلومات قد لا يكون موضع ترحيب كذلك في طهران التي ستواجه مجدّداً تهمة تصدير الإرهاب. أما موقف دمشق من المعلومات الجديدة فقد يكون ملتبساً. فمع أن المعلومات الجديدة لا تبرّئ حكومة سورية من الشكوك بتورّطها في الإغتيال، فإن الرئيس الأسد نفسه لم يَعُد في قائمة المتهمين. فبالكاد تتوفّر الآن أدلة على أنه، هو شخصياً، كان مطلعاً على المؤامرة أو بأنه هو الذي أعطى أمر الإغتيال.

يمكن للمرء أن يتكهّن حول الأسباب التي تدفع محكمة الحريري للتكتّم على معلوماتها حول الإغتيال. وربما يخشى المحققون في هولندا أن كشف المعلومات يمكن أن يتسبب باضطراب الأوضاع في لبنان. ومساء يوم الجمعة (أمس)، ردّ المكتب الصحفي للمحكمة باقتضاب على سؤال وجّهته له quot;دير شبيغلquot; قائلاً إنه لا يستطيع أن يعلّق على quot;تفاصيل عملياتيةquot;.

أما المحقّق الدولي السابق الألماني ديتليف ميليس (60 عاماً)، فقد يشعر بالإنزعاج لأسباب أخرى. فقد أجرى تحقيقاته على أفضل ما يمكن له، واستجوب أكثر من 500 شاهد، ولكنه قد يضطر الآن لمواجهة الإتهام بأنه ركّز أكثر مما ينبغي على الخيوط التي كانت تؤدي لاتهام السوريين. في أي حال، لقد كان قرار المحكمة الدولية بإطلاق سراح الجنرالات الأربعة الذين كانوا اعتقلوا بناءً على طلبه ضربة للمحقق الألماني.