رأى المفكر الليبي والمستشار الثقافي الخاص سابقالسيف الإسلام القذافي أنه لو أجريت انتخابات نزيهة في البلاد فإن التيار الإسلامي سيكون حتمًا المنتصر. ذلك أن الأحزاب الإسلامية منظمة. أما الأحزاب الأخرى فهي لم تؤسس بعد. والسبب الثاني هو أن حجم الأموال الآتية من الخارج، وخصوصًا من الخليج كبير جدًا.


محمد عبد المطلب الهوني

علاينة عارف من باريس: بعدما لاقى القذافي مصيره بالطريقة التي أثارت ردود فعل عالمية، وبعد تصريح مصطفى عبد الجليل بأن الشريعة الإسلامية ستكون مصدر كل تشريع في ليبيا الجديدة، ومحاولة إلغاء قانون الفوائد في المصارف التي يعتبرها quot;ربويّةquot;، وجدنا فرصة مناسبة لأخذ رأي المثقف الليبيالدكتور محمد عبدالمطلب الهوني، الذيكان يتابع الأحداث منذ اللحظة الأولى، وقد كتب مقالات عديدة في quot;إيلافquot; محذرًا من أي ارتداد قد يحصل للانتفاضة الليبيبة ضد حكم القذافي.

الهوني مثقفعَلماني يؤمن بدستور مدني... بدأ رجل قانون، ثم تحول إلى رجل أعمال... وعمل سابقًا مستشارًا ثقافيًا خاصًالسيف الإسلام القذافي. لكن، ما إن اندلعت الإنتفاضة، حتى اقترح الهوني على سيف الاسلام أن يعتمد لهجة تصالحية، ويعتذر عن سقوط ضحايا في شرق ليبيا، وأن يؤكد أيضًا على ضرورة إصلاح نظام والده بإعلان جملة قوانين موعودة لإطلاق حريات جديدة.

وكتب الهوني ما ينبغي أن يقوله لسيف الاسلام مقترحًا عليه أن يعتذر للضحايا. ولكن سيفذهب إلى والده الذي لم يرقه ما اقترحه الهوني ذلك، فقام بتغيير نص الخطاب.

وعندما ظهر سيف الإسلام على شاشة التلفزيون بدا الابن على سر أبيه في كل شيء يهز سبابته مهدداً، ومتفوها بكلمات أصبحت سيئة الصيت عندما توعد بالقتال حتى آخر رجل وآحر امرأة وآخر طلقة.

في اليوم التالي على الخطاب غادر الهوني ليبيا، ثم وجّه رسالة عنيفة إلى سيف الإسلاميتهمه فيها، بارتداء عباءة والده الملوثة بأربعين عامًا من آثامه. فتمت القطيعة بينهما.

وتجدر الإشارة إلى أن الهوني قد أسس موقع quot;الأوانquot; كمنبر لـquot;رابطة العقلانيّين العربquot;، التي تمّ الإعلان عن تأسيسها في باريس 2007، وصدر منها عدد كبير من الكتب والترجمات من أجل ترويج الفكر العَلماني وإشاعة الروح الديمقراطية الحرة. وبمناسبة ما يجري اليوم في ليبيا من تطورات قد تنذر بخيبة أو بأمل، اتصلنا به وبادرناه بالسؤال الآتي:

- ما رايك في طريقة نهاية القذافي؟
نهاية القذافي بالطريقة التي تمت بها حدث يمكن تفهمه، ولكن لا يمكن تبريره. ففي الثورات والحروب الأهلية كل ذلك ممكن الوقوع. القذافي ارتوى من الشراب نفسه الذي أذاقه للناس. هذا بالنظر إلى فكر الجموع الثائرة والمطالبة بالثأر. أما من الجانب الآخر، فكان من الأفضل الإبقاء على حياته، وتقديمه إلى المحاكمة العادلة، لفهم أسرار وألغاز وخبايا فترة العقود الأربعة، التي حكم فيها الشعب، وأهدر حقوقه وثرواته، وللكشف عن جرائمه ودسائسه وإرهابه، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. كما إن التأسيس لعهد جديد بعد كل هذا الظلم كان يجب أن يبدأ بمشهد العدالة، وليس بمشهد الثأر والتشفي.

- هل كنتم فعلاً تتوقعون أن ليبيا ما بعد القذافي ستصبح دولة مدنية علمانية؟

د. محمد مطلب الهوني
خطاب مفتوح إلى السيد سيف الإسلام معمّر القذّافي

ليس ثمّة أحد من السّذاجة حتى يتوقع قيام نظام علماني مدني في ليبيا أو في غيرها في البلدان العربية الدائرة، باستثناء تونس بورقيبة، لأن العلمانية قد أصبحت منذ زمن بعيد في البلدان العربية كلمة مرادفة للإلحاد، كما إن أدبيات الجماعات الإسلامية هي السائدة عند أكثر الناس في هذا الخصوص، لذلك استبدلت بكلمة quot;المدنيةquot;، وهذا المصطلح الجديد مبهم وغير واضح المعالم. والآن يحاول الإسلاميون أن يفصّلوه على مقاسهم، والحداثيون يريدون أن يؤثثوه من الداخل بأثاث العلمانية المنبوذة. هذه معركة فكرية سوف تشغل المفكرين والمثقفين على مختلف مشاربهم السياسية. غير أن الغلبة قد تكون للإسلاميين، لأنهم الأقرب إلى فكر هذه الشعوب التي ترزح تحت ثقافة قديمة، ولم تتخلص من الأفكار المسبقة.

- بعد أكثر من أربعين عامًا من الديكتاتورية العنيفة التي لم تترك للإنسان الليبي عزاء واحدًا سوى الدين، أتعتقد أن المجتمع الليبي مهيأ لنظام علماني مدني؟.

إن ليبيا مثل بقية الشعوب العربية لا يمكن أن تكون بلداً علمانيًا تنتصر فيه حقوق الإنسان وثقافة حقوق الإنسان. ذلك أنها بلد مازال يعيش في عصر قديم، ولم يعرف التحديث الجذري طريقًا إليه. لهذا السبب فإن توقُّع إنجاز ثورته لا يمكن أن يكون ذا سقف عال، لأن أي حزب أو إنسان يستطيع أن يمتطي هذه الجماهير باحتكار العلم ببواطن الدين. فما زالت مجتمعاتنا العربية غير قادرة على استعمال العقل والإيمان بقيادته، كما مازالت فكرة المواطنة مختلطة بمفهوم الإيمان.

فمجتمعاتنا هي مجتمعات المؤمنين، وليست مجتمعات المواطنين. إن هذه المجتمعات التي تثبّت أعينها خلف رأسها لا تستطيع أن تستوضح مسألة النهوض والحضارة. لذلك مازلنا نرى قبّة البرلمان أقل مصداقية من عمامة الفقيه، ومازلنا نلجأ إلى الفتوى التي تتحكم في سلوكنا بدلاً من القانون الذي تنتجه برلماتنا المنتخبة. بل إن البرلمانات لن تشرّع أي قانون يتعارض مع الأحكام الفقهية والفتاوى التي يطلقها شيوخ الملة. لهذه الأسباب فإن العلمانية لا تجد تربة صالحة ليتمّ استنباتها.

- ما المغزى الحقيقي لتصريحات مصطفى عبدالجليل حول اتخاذ الشريعة دستور حكم، واعتباره ما كان ساريًا حول وضع المراة وتعدد الزوجات مخالفة للدين؟

السيد مصطفى عبد الجليل رجل جاهل لا يصلح إلا أن يكون مأذونًا شرعيًّا للتّزويج والتّطليق. ففي يوم إعلان التحرير لم يكن في ذهنه غير شيء واحد هو إلغاء القانون الذي يحدد تعدد الزوجات، وهذا القانون لم يكن منّة من القذافي، بل كان نتيجة نضالات المرأة الليبية، ولأكثر من ستة عقود. كما حاول إلغاء قانون الفوائد في المصارف التي يعتبرها quot;ربويّةquot;، متناسيًا أنه بدون مصارف وطنية وأجنبية لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد مزدهر، ولن يكون في مقدور العاطلين من الشباب أن يحققوا أحلامهم في الرخاء الذي يأمّلونه بعد الثورة.

إن عبد الجليل لا يؤمن بالديمقراطية، ويعتبر أن أحكام الدستور يمكن أن يدلى بها من على منصة الخطيب فتصبح سارية المفعول. وهو معذور، لأنه لم يكن في يوم من الأيام دارسًا للقانون أو عارفًا في فقهه، وإنما كان متخرجًا من الجامعة الإسلامية، فلا يعرف غير أحكام الحيض والنفاس ونواقض الوضوء.

أما عن أحكام الدساتير، ونواقض الديمقراطية، فهذا ما لم يكن يعنيه في أي وقت من الأوقات. إن مصطفى عبد الجليل سار على النّهج نفسه الذي انتهجه معمّر القذافي، وهو نهج كان عورة ليبيا المكشوفة بإطلالتها القبيحة على العالم، جاعلاً من الثورة والثوار أضحوكة العالم في يوم انتصارهم، وكأن ليبيا لا تنجب إلا الزعماء السذّج والمشوهين لإثراء جلسات التنكيت والتندر.

- حتى لو أجريت انتخابات نزيهة قريبًا، الجناح الإسلامي هو الذي ينتصر.. يكفي أن ننظر إلى عامة الشعب الليبي لنتأكد من حتمية انتصار هذا الجناح... تحت ظل غياب أي حزب يؤمن بالعَلمانية كدستور لمجتمع ديمقراطي... ما الذي يجب أن يفعله العلمانيون ودعاة المجتمع المدني ليحققوا جزءًا من أحلامهم؟

لو أجريت انتخابات نزيهة، فإن التيار الإسلامي سيكون حتمًا المنتصر. ذلك أن الأحزاب الإسلامية منظمة منذ زمن بعيد. أما الأحزاب ذات التوجهات الأخرى فهي لم تؤسس بعد. والسبب الثاني هو أن حجم الأموال الآتية من الخارج، وخصوصًا من بعض الدول الخليجية كبير جدًا. وكلها تتجه إلى هذه الأحزاب الإسلامية، وهو ما يجعلها قادرة على شراء المقار الحزبية والصحف والفضائيات والصحافيين والإعلاميين المعروضين في سوق النخاسة الإعلامي.

السبب الثاني والأهم هو أن مجتمعاتنا يمكن أن يُضحك عليها باسم الدين، وتعتبر أن كل من يتكلم باسم الدين إنما هو معبّر عن الإرادة الإلهية، وكل ما تفعله الأحزاب الإسلامية، إنما هو تجسيد للمشيئة الربانية. أما ما يجب أن يفعله العلمانيون والحداثيون فهو اعتبار أن هذه الثورات خطوة إلى الأمام، بدلاً من اعتبارها فعلاً منجزًا لكل التطلعات.

لذلك يجب أن يبدأوا الآن في محاولة تنوير هذه المجتمعات وبكل الوسائل المتاحة حتى يتمكنوا من استبدال هذه المفاهيم العتيقة بأخرى حداثية، وإحداث تغيير جذري في منهج التفكير، لأن التنوير ليس إلا إلغاء للأفكار المسبقة، واستهداء بالعقل كمنقذ للإنسان من هواجسه وأوهامه وتخلفه في ما يتعلق بالحياة على وجه هذه الأرض. أما عبادة الأسلاف وتحكم الموتى في الأحياء، فتعطي الإسلاميين القوة التي يتبجحون بها لضبط هذه المجتمعات البشرية والتحكم في مصائرها.

- كيف تستشرف مستقبل ليبيا القريب؟
ليبيا اليوم مفتوحة على كل الاحتمالات. فهذا البلد يعجّ بالمسلحين وبالأيدي المدججة بأسلحة من كل نوع، ولا توجد لديهم قيادة موحدة ولا هدف واضح بعد سقوط القذافي. كما إن من بينهم من يريد أن يستولي على السلطة عنوة، وإخضاع المجتمع بكامله إلى إيديولوجية معينة. وبعض الدول ترمي بثقلها المادي والسياسي والدبلوماسي والإعلامي من أجل تغليب فئة على أخرى.

هذا إلى جانب أنهيكل الدولة السابقة قد انهار بالكامل، فلا توجد أي مؤسسات أو أجهزة يمكن البناء عليها. فليبيا اليوم أقرب للفوضى منها إلى الاستقرار، وإن إمكانية حرب أهلية قائمة، أو محتملة ودخول البلد في حالة تشظّ أمر ممكن، ولا أرى إمكانية قيام دولة جديدة بدون الاستعانة بالأمم المتحدة والجامعة العربية، واستقدام قوة عسكرية تساعد في إنشاء الدولة الجديدة.

غير أن هذا الرأي لا يحظى بإجماع المسلحين، الذين يعتقدون أن بإمكانهم إنشاء الدولة ومؤسساتها بأوهام غارقة في الرومانسية. أما الأقلية المؤدلجة، وأخص منهم بالذكر الإسلاميين، فهم يرون في هذه الفوضى فرصة ذهبية للاستيلاء على السلطة وبسط النفوذ. لذلك فليبيا مفتوحة على كل الاحتمالات.