لئن كان البشر ينزعون بحكم تربيتهم الخاطئة إلى الميل غالبا إلى تثمين بل وإلى تقديس اختلافاتهم أحيانا كما يفعل المسلمون، فإن اللائكية تحثهم على عدم السقوط في مغبة نسيان 'الكوني والجامع' الذي ينبغي أن يكون مُرفرفا فوق كل الاعتبارات والخصوصيات والتقوقعات.

تدعو اللائكية إلى واجب التشابه بين البشر من أجل الوصول في النهاية إلى احترام الاختلاف بينما تأمر الأديان بإبراز الاختلاف منذ البداية من أجل فرض التأحيد والاستنساخ في حالة هيمنتها. وهو ما أثبتته تجارب كثيرة في ماضي وحاضر الأيام إذ تفضي الدولة الدينية رأسا وفي كل الحالات إلى الحرب الأهلية وقمع المختلف. لذلك فأول لبنة في بناء الدولة المدنية تبدأ بالضرورة من عدم التفريق بين الناس على أساس الاعتقاد واستبدال كلمات ''مؤمن'' و''غير مؤمن'' العتيقتين بـكلمة quot;مواطن'' الحديثة. ودون هذا الشرط المفصلي، فكل شيء يتهاوى عاجلا أم آجلا، لأن عدم الحسم في مدنية الدولة ينقلها حتما من الجهاد الإرهابي إلى الاستبداد الديني.

لو اعتمدت اللائكية في البلدان العربية منذ البداية لكانت قد حققت السلم بين الأديان بضمانها لكل فرد حرية الضمير،الإيمان بالدين الذي يرغب فيه أو عدم الإيمان، و لكانت قد أسست لمساواة حقوقية حقيقية بين المسلم و المسيحي والملحد و اللاأدري... ولكانت قطعت الطريق قانونيا أمام دعاة الدولة اللاهوتية المُفكِّكة للمجتمعات. تنظم اللائكية المجتمع سياسيا بانتهاج أسلوب المصلحة العامة وتنظمه قانونيا بفصل كل المؤسسات العمومية عن الأديان، وعلى الخصوص تلك الجمعيات ذات الغايات الانعزالية. اللائكية هي رفض للامتيازات و خروج من أسر الوصاية إلى رحابة الحرية الفردية وحفظ حقوق الأقليات.

أراد مبدعو 'اللائكية المنفتحة' في فرنسا أن يفتحوا بهذه العبارة المخادعة الباب لكل مجموعة إمكانية التملص من القيم الكونية لتعرض خصوصياتها العقائدية و بالتالي اختلافاتها مع المجموعة الوطنية! وكل هذا ليس حبا في التعدد الثقافي والديني وإنما بغية شراء سلم اجتماعي يكون ضامنا لنمو الرأسمالية المالية و التي تمني النخب بدورها بمستقبل واعد. و لكن بدأ المجتمع الفرنسي يجني ثمار الانعزالية المرة و كثرة المطالب الفئوية غير المعقولة. تتخابط الديانات حينما لا يفصل بين السماء والأرض وتتعايش بسلام حينما يتم الفصل، كيف يتعايش المسلمون والأقباط في مصر والدستور (حتى المعدل أخيرا مع الأسف الشديد) يفرض الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي في التشريع ضاربا بعرض الحائط عقيدة المسيحيين؟

لا أملّ ولا أكلّ من التكرار أنه بدون إبعاد الإيديولوجية الإسلامية من المنظومة القانونية لا أمل في التحرر الديمقراطي إذ تتعارض هذه الإيديولوجية شكلا ومضمونا مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان، لأنها ببساطة تولي كل الأولوية لحقوق ما يسمى 'الله'. ألا يقتصر مرور الإنسان على وجه الأرض على تنفيذ رغبة هذا الله و طاعة ما شرّعه فقط؟ من أين يمكن أن تتسلل الحرية إلى بلد مثل السعودية تحاصره الشريعة من كل جانب؟ وكيف يمكن أن تخترق أشعة الحرية الكتلة الفقهية التي يسلطها الملالي على صدر الشعب في إيران. لقد رأينا نموذج الديمقراطية الإسلامية في الانتخابات الأخيرة في هذا البلد وما آلت إليه من فضائح تزوير ومن قتل للأبرياء. لا ينبغي أن يكون المرء متخرجا من الأزهر أو من قم ليدرك أن الديمقراطية و الشريعة كالخطين المتوازيين، لا يلتقيان أبدا. يكفي أن يتمعن المرء فقط في تصور الإسلام والمسلمين لمكانة المرأة وغير المسلم والملحد؟

هل تقام ديمقراطية على أساس دونية المرأة وذمية غير المسلم وسفك دم الكافر؟ ليس هناك علمانيات متعددة ولا عقلانيات ولا حداثات مُخفّفة ممكنة كما يدعي بعض الذين ما زالوا يفتشون عن الجديد في القديم. وحتى و إن وجدت فلا يتجاوب الإسلام مع أدنى مبادئها. فلا مكان للحرية في الإسلام و لا لمبادئ حقوق الإنسان التي تقوم على أساس 'لا جريمة و لا عقوبة إلا وفق القانون'. فكيف يتوافق القانون الحديث مع عقوبات يطلق عليها 'التعزير' في الشريعة الإسلامية وهي عقوبات يتم إقرارها من قبل القضاة بالطريقة التي يشاءون لملء الفراغ الشرعي!

وبدل أن يغير المسلمون مبادئ دينهم المتناقضة مع الحرية يحاولون عبثا إرغام الحرية على الانصياع لمبادئهم. بدل الدخول في العصر يحاولون إدخال العصر في دينهم. إلى متى يبقى المسلم كالسمكة يبتلع طعم الدين كل مرة دون أن تعلمه السنون و القرون أن سنارة الفقه جُعلت لتفصله عن ذاته وعن الحاضر والآخر وأن ما يسمى دولة إسلامية لم تكن أبدا دولة مواطنة و إنما هي ولاية على البشر رغم أنوفهم. و يعود ذلك أساسا إلى طبيعة الدين الإسلامي ذاته لأن الشريعة هي الفكرة الرئيسية فيه و ليس الروحانيات كما يدعي أغلب الإصلاحيين و من سار على دربهم غير المنير.فالذي يحاول عقلنة اللاهوت و يدعي العثور على علمانية ما في التراث الديني الإسلامي فهو يغتصب التراث و العلمانية معا، بل يرتكب فعلا مخلا بالمنطق لأن العلمانية تحاول تنظيم الاختلاف في حين أن الدين لا يريد سوى إلغاء هذا الاختلاف( الدعوة اعتداء على ضمير الناس غير المسلمين).

واعتبارا لكل ما سبق، يمكن القول : لا ديمقراطية بدون علمانية و لا علمانية دون التخلص من منطق الدين و من هنا تبقى كل الإصلاحات عبثية ما لم تُـنَظف الدساتير العربية من 'الإسلام دين الدولة' أو ' الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع '، تلك مادة تكرس الوصاية على الناس، تتعارض مع القانون الوضعي والديمقراطية والعلمانية و الحرية.. وقيم العصر الإنسانية كلها. حميد زناز / مؤلف ' فصل المقال في مواجهة أهل الظلام'، دار الساقي و رابطة العقلانيين العرب.