حميد مشهداني من لندن: قوة غامضة فاقت شعوره، قادته الى سلوك غريب استغله لينحت اسطورته في حياته، فهو كان يتصنع تأريخه، وفي العديد من المناسبات وضع نفسه على حافة العديد من الفضائح العائلية والجنسية، والمالية فهو ينتمي الى البرجوازية والى حد الازمة المالية التي حدثت في فرنسا في 1882 وانهيار بورصة باريس، كان قد عاش ترفها بكل معانيها، وحين فقد كل شئ وجد في هوايته كرسام ldquo;هاويrdquo; متنفسا للتعبير وأنقلب على النظام المالي الرأسمالي الذي هو كان جزءا منه فهو لم يدرس الفن ابدا. كان كما يقال واحدا من رسامي ldquo;ايام الاحدrdquo; الاغنياء، فبدأ يحوك أسطورته وتضاعف شعوره بالعظمة، مستهزئا معاصريه من الرسامين، ولكنه رغم هذا لم يترك الاكل والشرب من اطباق الاخرين الاكثر منه فقرا مثل ldquo;فان كوخrdquo; الذي تركه يحتضر في ldquo;أرليسrdquo; عذ حادثة قطع الاذن الشهيرة بعد ان عاش أشهر على حسابه المحدود الذي كان يرسله ldquo;ثيوrdquo; من باريس، فهو الملعون و اللئيم، الذاتي والسكير والفاسق، وهو نفسه بالغ في بناء هذا السلوك الفاضح.
لكي ندخل في خصوصية أبداعه علينا أولا ان نزيح هذا الستار الاسطوري ldquo;المفبركrdquo; ونترك جانبا احساسه بالعظمة، فهو في الاساس من اكثر فناني نهاية القرن التاسع عشر حساسية، هو اخترع حياته ولفق تأريخه بالسوء، وكان مرارا ما يعترف بقبح سلوكه الاجتماعي، وقسوته مع عائلته حيث زوجته الدنماركية اصدرت مغادرة فرنسا عائدة لبلادها مع الخمسة من اطفالها.
الان في ldquo;التيت مودرنrdquo; في لندن في الطابق الرابع من المحطة المركزية للكهرباء القديمة يقام اكبر معرض شامل للوحاته وقطعه النحتية والعديد من المخطوطات والرسائل. وهناك ما يقارب المئة من أعماله الزيتية، جمعت من العديد من المتاحف العالمية، والمجموعات الشخصية،
غوغان، أكتشف فجأة ان حياته الغريبة الاطوار والقصص التي خلقت حول شخصيته، وغموض حكاياته حول جنان بحار الجنوب الكاريبي التي كان قد أعتاد السفر اليها، بإمكانها ان تضيف أهمية لعمله الفني، وكان واعيا ان ظهوره الشخصي كمتوحش وشهيد في ذات الوقت سوف يساعد على شهرته أولا، ثم بيع لوحاته ثانيا، التي فشل تماما في بيع اي عمل يذكر، ومات في العدم.
الكثير من النزاع، والعديد من الصعوبات الحياتية جعلته صعب المراس معاديا وعنيدا، وغير مهذب، رؤيته ldquo;البارانويةrdquo; للعلاقات الانسانية جعلته خارج كل الدوائر الاجتماعية، وهو كان سعيدا يحاله هذا وكان يفاخر بعدم شعوره بالحميمية والصداقة، وبهذا كان يغذي اسطورته حيا.
غوغان، هو من القليل من الفنانين الذين استخدموا أسلوبا وتكنيكا، من اول لوحة رسمها الى اخر واحدة رسمها على طول حياته، نفس الالوان، وتقريبا نفس ldquo;الفِكَرrdquo; الثابتة وكأن شخصيات لوحاته جزءا من ldquo;الطبيعة الميتةrdquo; كما كل الفنانين ldquo;الفطريينrdquo; في تلك الفترة، مثل ldquo;هنري روسوrdquo; وحتى ldquo;فان كوخrdquo; الذي كان في تناقض دائم مع ldquo;غوغانrdquo; وهذ كان عكس التجريب الذي مارسه ldquo;الانطباعيونrdquo; مثل ldquo;سيزان ldquo; وrdquo;كلود مونيهrdquo; وrdquo;رينوارrdquo; واخرون وهؤلاء غامروا كثيرا في التجديد والتكنيك والاساليب. نحن الان في القرن 21 ونشكر أستقامة ldquo;الفطريينrdquo; في أسلوبهم، لانهم لولا هذا ربما لما كان لهم ذكر في تأريخ الفن.
في معظم الاعمال المعروضة نرى الهوس الجنسي طاغيا، فهذا كان موضوعه الرئيسي، اذا استثنينا بعض ldquo;البورتريهاتrdquo; التي رسمها لنفسه والتي فيها حاول ان يخلد نفسه في عدة لوحات ldquo;موسيقي، فيلوسوف، ومتأمل، ورسم نفسه رساماrdquo; والورود في شعر نسائه، فهو يشعر المشاهد وكأنه تقدم وسبق الحركة ldquo;الهيبية rdquo;ب100 عام تقريبا فغضبه مع النظام الرأسمالي الذي هو كان جزاء منه جعله يغادر الى عوالم وجنات أخرى حيث لا أوراق مالية ولا أرصدة ولا بنوك، وهو الذي عاش ترف هذا النظام الى حين أفلاسه. فهو وصل الى ldquo;بيروrdquo; في أمربكا الجنوبية في السادسة من عمره وأستقر في بيت جده المليونير rdquo;ترستان موسكوسوrdquo; الذي كان يعتبر من ارقى قصور العاصمة ldquo;ليماrdquo; هنا أعتاد غوغان رؤية خادمات القصر شبه عاريات في كل أجنحة القصر وهذا بأعتقادي أثر كثيرا في انجازه لكل تلك اللوحات في كبره، ففي ذاكرته كانت بقايا شهوانية لمراهق أكتشف الجنس في عمر مبكر، وبشكل طبيعي وكان محاطا بنهود عارية، ليس بقصد، وانما هذا كان الزي التقليدي لهنديات البيرو.
وهكذا بعد أفلاسه الذريع، وفقدانه كل ممتلكاته وضياع عائلته قرر الابتعاد عن ldquo;باريسrdquo; الى بحار الجنوب ليستعيد ذكرياته راسما تلك النساء اللواتي لم يتركن ذهنه أبدا.
في القليل من الاعمال يبدو ldquo;غوغانrdquo; أكاديميا، كما في لوحة ldquo;سوزان تخيطrdquo; وهذه اللوحة تذكرنا بنساء ldquo;روبنزrdquo; مليئات الافخاذ والمؤخرة. وفي بعض الاعمال نشاهد تأثره بأعمال صديقه ldquo;العدوrdquo;فان كوخ خاصة في لوحة ldquo;راعي بريتون الصغيرrdquo; ولوحة ldquo;صراع يعقوب مع الملاكrdquo;. ولكن أجمل لوحات المعرض باعتقادي هي ldquo;فقدان العذريةrdquo; حيث يرسم امرأة بيضاء مضطجعة تركت مصيرها لاغراء ثعلب. واللوحة الاخرى هي التي تتصدر دليل المعرض حيث فيها البراءة غير المعتادة في أعماله وعنوانها rdquo;تيها أمانا وأقاربها العديدونrdquo; في هذا العمل يبدو أن ldquo;غوغانrdquo;كان هادئا روحيا ففي وجه الفتاة المحشمة كانت البراءة الطفولية، ورغم ذالك فهو لم يترك الاشارة لهوسه الجنسي ففي الrdquo;خلفيةquot; يرسم جزءا من جدارية ldquo;اثتيكيةrdquo; تبدو فيها امرأة شبه عارية و مضببة الملامح.
بشكل عام المعرض يمثل انجازا رائعا لrdquo;التيت مودرنrdquo; فلو استيقظ ldquo;غوغانrdquo;من قبره أتخيله متربعا عرشه وبيده العصاة التي لم يفارقها أبدا ضاحكا ومستهزئا بكل من أعتبروه غير اخلاقي، في النهاية أوصي قراء الفن وتأريخه مشاهدة فلم ldquo;فنسنت مينيلليrdquo; عن فان كوخ. حيث يلعب دور ldquo;غوغانrdquo;الممثل الرائع ldquo; انتوني كوينrdquo; الذي حصل على جائزة الاوسكار كممثل ثانوي.