بعد بضعة ايام يتذكر لبنان حرب 13 نيسان 1975، يتذكرها كي لا تعاد، كي لا تظهر بوسطة عين الرمانة الغاضبة من جديد وتهدر بحرب عنيفة قاسية ومدمرة، اما ماذا يخبر جيل ما بعد الحرب الاهلية في لبنان عن تلك الحادثة، هم الذين لم يعايشوها وسمعوا بها فقط؟.


بيروت: من منا لم يسمع ببوسطة عين الرمانة؟ ذلك الباص الذي أشعل فتيل حرب امتدت لما يقرب من عقدين من الزمن وغيرت وجه لبنان إلى الأبد؟ حتى ليمكن القول إن ما قبل 13 نيسان/ابريل ليس بتاتًا كما بعده، سواء على المستوى السياسي، الاجتماعي أو الأمني.

وحتى أولئك الذين لم يتسنَ لهم أن يعايشوا تلك المرحلة، فإنك ترى في عيونهم الخوف بمجرد أن تذكر امامهم ذلك التاريخ المشؤوم الذي لم يكن ربيعيًا كما يفترض أن يكون، بل اختصر كل قسوة الشتاء وشحوب الخريف، وحتى حرارة الصيف.

إنها quot;البوسطةquot; التي قادت لبنان نحو جحيم احترق في أتونه شعب بأكمله، وانصهرت بناره قيم وأعراف لطالما اعتز لبنان بحق، أنه رائدها، ليسود مكانها منطق الأنانية والفوضى، الذي وإن لم يكن غريبًا بالمطلق عن المجتمع، إلا أن آلة الحرب الطاحنة، أكسبته شرعية تصل حد القداسة.

ولكن، أليس من التجني تحميل quot;بوسطةquot; جرم خراب بلد بأكمله؟ أما كان من الممكن إشعال البركان اللبناني بأي عود ثقاب آخر؟

أسئلة تبدو مشروعة، بل وضرورية في بلد، لم يكن منذ وُلِد، إلا على صفيح ساخن، يفتر حينًا ويستعر أحيانًا. فهل سيدرك أبناؤه يومًا أن فاتورة الحروب هي أعلى بكثير من فاتورة الحوار وإن طال؟ وهل ستكف القوى الكبرى عن استخدام لبنان وبنيه كأحجار شطرنج وسعاة بريد لإرسال الرسائل الإقليمية والدولية؟ وإذا كان قدر لبنان أن يكون ساحة تنافس لهذه القوى، بحكم موقعه وتركيبته، أليس من الأجدى لعب هذا الدور بأقل الخسائر الممكنة؟

quot;تنذكر وما تنعادquot; مثل شعبي يأمل اللبنانيون، بخاصة جيل الشباب، أن ينسحب على الحرب اللبنانية التي، وإن لم يعايشها معظمهم، إلا أن الجميع لا يرغب في تكرار التجربة، اللهم إلا المستفيدين من الفوضى بشكل أو بآخر.

13 نيسان /ابريل ، ليس مجرد شرارة اطلقت الحرب في لبنان العام 1975، 13 نيسان/ابريل ذكرى وعبرة لآلام ومآسٍ لا تنتهي، كتبها الرصاص ونحتت في جسد لبنان شظايا القذائف، واصمّ دوي المدافع آذان العقل والضمير، فعندما يبدأ نعيق المدافع يعلو صوت الوحشية ويموت الضمير والمنطق.

ربما لم يبقَ شيء ليكتبه جيل ما بعد الحرب، هم الممهورة ذاكرتهم بصور المأساة ، هم الذين شوّهت ماضيهم اخبار الحقد ولطّخت طفولتهم عتمة الدم الذي انتهكت حرمته في حرب الاخوة وحرب الغرباء وحرب ابناء الوطن الواحد.

طوابير الجياع على الافران، الاطراف المقطّعة وعويل النساء ويتم الاطفال، وقصص المخطوفين وأهلهم الساعين إلى وساطة الزعماء لتخليص فلذات أكبادهم من الأسر والقتل، الطرق الخطرة والآمنة، القناصون وصيادو البشر، زعيق سيارات الاسعاف، القصف العشوائي، رائحة البارود، الملاحق الإخبارية، الحواجز الطيارة والقتل على الهوية واللهجة واللكنة، صفوف أكياس الرمل والمتاريس التي تملأ الشوارع ومداخل الأبنية والشرفات، تلال الرمل التي تسد المعابر وأطراف الشوارع، ماذا بقي منها كلها في جيل شباب ما بعد الحرب؟

حرب اهلية، حرب طائفية، حرب الآخرين في لبنان، الحرب اللبنانية، كلّها ذكريات ومسمّيات كانت تجد من يتفنن في اختراع التسميات واطلاق الشعارات، وكتابة الكلمات في تأبين الشهداء أم القتلى،لا فرق، المهم انهم ضحايا تلك المجنونة الوحشية المسمّاة حرب.

ولأن الحرب والصراع على امتداد السنوات التي تلت 13 نيسان/ابريل اتخذت اشكالاً وألقابًا عدة، الطبقية، الطائفية، المناطقية، العقائدية، ووجوه ربما اضمحلّت ولم نسمع عنها واصوات لو كانت على قيد الحياة، لربما كانت قالت الكثير واعطت الكثير، تلك الاصوات التي نقول دائما إنها باقية لكنّ الكثيرين لا يريدون سماع صوتها لأنها تشبه صوت الضمير، لانها بلا شك اصوات ملؤها الحسرة على مآل الوطن ومستقبله، لان الذين رحلوا لأجل لبنان الافضل ولمستقبل اكثر املاً واشراقًا، ولان المستقبل عنوان الشباب ولأن الماضي عنوانه العبر، ولأن 13 نيسان/ابريل قدر وتاريخ يمكن أن يعيد نفسه بأيد وعقول جديدة، توجّهنا لعيّنة من الشباب اللبناني الطالع من مختلف التيارات والاحزاب لنسألهم ماذا تعني لهم حرب 13 نيسان 1975 وماذا سمعوا عنها؟

فادي خوري (21 سنة) يعتبر أن quot; 13 نيسان/ابريل أتى كرد على خطيئة اتفاق القاهرة 1969 والذي سمح باستباحة لبنان للعناصر الغريبة كي يعيثوا فيه الفوضى، وكان ردًّا للقوى السيادية التي كانت تريد لبنان وطنًا آمنًا لجميع ابنائه، لا ساحة صراعات ولا الجبهة العربية الوحيدة ضد اسرائيل، والتي اصبحت حجة للفلسطينيين الذين حاولوا أن يتّخذوا لبنان كوطن بديل عن وطنهم الاصلي، وحلبة يتصارع عليها العرب واقطاب الحرب الباردةquot;.

ويضيف:quot; اخشى ما اخشاه أن يعيد التاريخ نفسه، وأن يتكرر استقواء البعض من اللبنانيين بالخارج و بالغرباء على ابناء وطنهم، وأن نصل للنتيجة عينها حيث أنّه ولو اختلفت الشخصيات والجهات الا أن الظروف التي أدّت الى اشتعال الحرب والفتنة سابقًا قد تؤدي الى اشتعالها مجددًا.quot;

هادي طربيه (22 سنة) ينظر بنظرة مخالفة تمامًا عن 13 نيسان/ابريل وعن الحرب ويقولquot; إن حرب السنتين كما سمعتها من اهلي كانت ضد فئة تمسك بلبنان وثرواته وتحتكر الحكم فيه على حساب فئات مقهورة ومغبونة كانت تعيش مسحوقة ودون حقوق في وطنها، لكننا الآن نتطلّع الى تخطّي آثار الحرب وتخطّي كل سلبياتها لتكون دروسًا مستفادة بأن الحرب هي خراب على الجميع، وأن الحوار والمساواة بين أبناء الوطن في الحقوق والواجبات هو ما سينهض بلبنان، وأن الحرب التي طحنت رحاها اللبنانيين في ما بينهم قد ولّت الى غير رجعة وعلى 13 نيسان/ابريل أن يكون دعوة متجددة إلى جميع اللبنانيين لنبذ الحرب ولغتها والوقوف يدًا واحدة وللعمل على بناء لبنان للوقوف في وجه كل ما يهدد كيانه، والحفاظ على استقرارهومنع الطامعين والمعتدين من تحقيق اهدافهم ومنعهم من النفاذ واللعب على التناقضات في ما بينهاquot;.

يحدّثنا طوني سعد (22 سنة) وهو أحد الذين يرون أن الحرب تفرضها ظروفها وأهدافها ويقول:quot; كما حصلت الحرب سابقًا يمكن أن تحدث الآن في ظل التعصّب والتحجّر عند الاطراف التي رهنت قرارها للخارج، إذ أنه في ظل التعنّت واللامبالاة التي تبديها هذه الاطراف المتمسّكة بالسلطة حاليًا، عليهم أن لا يتوقّعوا منّا الصبر وضبط النفس الى ما لا نهاية، ونحن لن نسكت امام المحاولة لإلغائنا واتهامهم لنا بالتبعية أو انكارهم حتّى لوجودنا. وانا ارى أن البندقية هي الرد على التجاهل لمطالبنا المحقّة بالشراكة، وأنّه في لحظة ما سنتجاوز حتّى زعمائنا في حال استمرار الاستفزازات والاعتداءات على رفاقنا واهلنا.quot;

رندلى صفير ( 22 سنة) ترفض الافصاح والكلام عن الحرب، وتسعى الى القول بأنها ذهبت الى غير رجعة ولا تعرف شيئًا عنها، وتعيد السبب الى عدم وجود كتاب تاريخ حتى اليوم ليعلم الجيل الجديد عن تلك الحرب التي تسمع عنها فقط من اهلها وتضيف:quot; انا مواطنة لبنانية وكفرت بكل الاحزاب، و13 نيسان/ابريل هو إدانة لكل الاحزاب والزعماء الذين شاركوا بالحرب، اذ ما من ثمن يستحق سفك دماء مئات الآلاف والذين اغلبهم مواطنون ابرياء، وانا ارى أن على كل لبناني أن يكون مواليًا فقط للبنان ولمواطنيه، وأن يكفر بجميع الاحزاب والتيّارات وينضوي تحت لواء المطالبة بالوحدة الوطنية وأن يطالب بالسلام والحياة الآمنة.

الحرب رهن القرار الاقليمي

إن 13 نيسان/ابريل كان صافرة البداية للاحداث الاكثر دموية التي عصفت تاريخ لبنان الحديث وذاكرة ابنائه. هذا ما يقوله الطالب، كمال نصرالله (23 سنة) والذي يعتبر أن quot; الحادثة، لم تكن سببًا لما تلا ولا نتيجة لما سبق من تحولات على المسرح اللبناني، بل تقتصر على كونها تاريخًا رسميًا معممًّا لما أصبح يعرف بالحرب الاهلية.quot; ويضيف :quot; الحرب كانت قرارًا اقليميًا بالمواجهة على ارض لبنان، البلد الضعيف الكثير التجاذبات والطوائف والعصبيات، المفتقد للهوية الواحدة الموحِدّة للوطن، بقضاياه المحقّة المتعدّدة و المتناقضة، كثير من نقاط الضعف في التركيبة اللبنانية، شكّلت الدوافع الكافية والذرائع المقنعة للشرائح المتناحرة للقبول بوضع نفسها ادوات ووقودًا في آن واحد للدول الاقليمية وكل من اراد دخول اللعبة وتصفية حسابات مع اللاعبين الاخرين في تلك الحرب الضروسquot;.

امّا اليوم، فيعتبر كمال أنه quot;على الرغم من الاستراحة أو الهدنة الرسمية الأخرى المعلنة في اتفاق الطائف، فإن اي تغيير في التركيبة الهشة لم يطرأ، ما يعني أن لبنان الساحة ما زال يشكل الارضية المناسبة لتصفية الحسابات وإيجاد الحلول لأزمات المنطقة، واندلاع الحرب رسميًا رهن القرار الاقليميquot;.

الحرب في سطور

استدرج لبنان بتاريخ الاحد 13 نيسان /ابريل 1975 الى خوض حرب داخلية ضروس اسفرت عن 200 ألف قتيل وآلاف الجرحى والمعاقين والى خسائر مادية فادحة الى جانب هجرة داخلية وخارجية لمئات الآلاف من المواطنين، واخيرًا الى زعزعة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ولم تخلُ أي منطقة لبنانية من لهيب الحرب الداخلية كما لم ينجُ أي مواطن لبناني من بين الثلاثة ملايين من تأثيرها المباشر وارتبطت هذه الحرب بالصراع العربي الاسرائيلي واتفاق الصلح بين مصر واسرائيل العام 1979 والوجود الفلسطيني المسلح في لبنان.

لبنان الذي كان ارضًا للحرية والديموقراطية وملتقى الاديان والطوائف المختلفة لما يحمله من غنى وقيم كان ايضًا منطقة خصبة لنشوء الصراعات والتي اضحى وقودًا لها.

ذكر لبنان مرارًا في التوراة ووصف بأرض اللبن والعسل ولقب بسويسرا الشرق ولكنه طيلة 15 عامًا امسى مسرحًا للنار والدم حيث شهد حروبًا متعددة ومتتالية.

حادثة عين الرمانة

كان بامكان حادثة عين الرمانة الدامية التي جرت بتاريخ 13 نيسان /ابريل 1975 أن تجد لها حلاً في خلال 24 ساعة بدل أن تغرق البلد في صراع عنيف ولعل قوى الشر ارادت أن تزيل هذه الارض الطيبة من خارطة الوجود.

وأدعى بعضهم بأن هذه الصراعات ليست سوى جولات موقتة سريعًا ما تنقضي ليعود لبنان الى سابق عهده من الرخاء والازدهار، ولكن الواقع الأليم كان بخلاف ذلك الأمل.

ايقن اللبنانيون أنهم سيدفعون ثمن هذه الحروب التي تتابعت بدءًا بحرب السنتين 1975- 1976 التي اتخذت شكل حرب لبنانية ndash; فلسطينية .

وانتهت الجولة الاولى بانتشار قوات الردع العربية وغالبيتها من القوات السورية، والتي استقبلت بالترحيب، وهذا ما شجع الجيش السوري ومخابراته على البقاء 30 عامًا في لبنان.

حرب المئة يوم

وعرفت الجولة الثانية بحرب quot;المئة يومquot; تصارعت فيها القوات اللبنانية مع الجيش السوري الذي سرعان ما انحاز الى الفريق المناوىء المتمثل بتجمعات الاحزاب المتحالفة مع الفلسطينيين.

ثم جرى الاجتياحان الاسرائيليان للبنان في 14/3/1978 و6/6/1982 وهدفهما سحق القوات المسلحة الفلسطينية المتمركزة على الحدود اللبنانية الاسرائيلية ودفع لبنان ثمن هذين الاجتياحين احتلالاً اسرائيليًا لقسم كبير من اراضيه حتى شهر آيار/مايو 2000.

اما حرب الجبل العام 1983 فأجبرت المسيحيين في منطقتي الشوف وعاليه الى الهجرة، والحرب السورية- الفلسطينية في طرابلس اتمت عمل الاسرائيليين وحملت ياسر عرفات على مغادرة لبنان.

ودامت كل هذه المعارك المتعددة 15 عامًا تحمّل فيها اللبنانيون المتفجرات القاتلة والمدمرة والاغتيالات وخطف المواطنين والاجانب وتصفيتهم، كما عرفوا القناصين وخطوط التماس والهجرة واغتيال الشخصيات السياسية، كالزعيم الدرزي كمال جنبلاط العام 1977 والرئيس المنتخب بشير الجميل العام 1982 والرئيس المنتخب رينيه معوض العام 1989 ، كذلك الشخصيات الدينية كتغييب الامام موسى الصدر العام 1976 واغتيال المفتي حسن خالد العام 1989.

ثم عرف لبنان حرب التحريرالتي خاضهاالعماد ميشال عون، الذي استلم الحكم بعد الرئيس امين الجميل، ضد الوجود السوري في لبنان، وحرب الالغاءبين القوات اللبنانية من جهة وجيش العماد عون من جهة أخرى.

اتفاق الطائف

ووضع اتفاق الطائف حدًا للحرب والطائف هي مدينة سعودية اجتمع فيها النواب اللبنانيون للاتفاق على وثيقة تنهي الحروب اللبنانية.

تم التوقيع على هذا الاتفاق بتاريخ 22 تشرين الاول /اكتوبر العام 1989، ورفض هذا الاتفاق الجنرال ميشال عون الذي استلم الحكم بدل الرئيس امين الجميل المنتهية ولايته، ولكن في 13 تشرين الاول / اكتوبر أجبر عون عسكريًا على مغادرة قصر بعبدا الى باريس.

...ان 13 نيسان/ابريل كان نارًا اشتعلت من تحت الرماد وما يخشاه اللبنانيون اليوم أن تتكرر هذه المأساة بيوم آخر وتاريخ آخر وهدف آخر، فهل تعلمّنا نحن اللبنانيين الدرس جيدًا، أم أننا سنسقط ويسقط معنا الوطن مجددًا في هوّة التعصّب والاحقاد والحماقات؟.